فلاديمير بوتين وإرث الإمبراطور بطرس الأكبر

فلاديمير بوتين وإرث الإمبراطور بطرس الأكبر

بطرس الأكبر، واضع أسس روسيا الجديدة، خسر أول معاركه في معركة نارفا في السويد في عام 1700م فوصف هزيمته بأنها نعمة، قائلًا، ” لقد أجبرتني على العمل ليلًا نهارًا “.
خاض حروب امتدت لواحد وعشرين عامًا، خرجت منها روسيا القيصرية من كونها دولة بدائية، محصورة على أطراف القارة الأوروبية، إلى مصاف الدول الإقليمية والعالمية المؤثرة، مع سيطرتها على منافذ الى المياه الدافئة في البحر الاسود وآزوف والبلطيق وبحر قزوين.
ماذا قدم خليفته بوتين لروسيا منذ استلامه الحكم منذ العام 2000؟
استلم فلاديمير بوتين بلاداً تتخبط في حالة فوضى عارمة على كل الصعد: اقتصاديا واجتماعيا وعسكريا وسياسيا، ركود مع انخفاض حاد في مستوى المعيشة، انهيار غير مسبوق في العملة المحلية، تقلبات سياسية داخلية، يرافقها مواجهات عسكرية في مناطق مختلفة، خصوصًا في القوقاز، انهيار للنظام والجيش والقوى المسلحة، انتشار للفساد والرشوة والمافيا، انهيار للقيم الاجتماعية والأخلاقية بين الشعب، كلها عوامل انعكست سلبًا، لتحويل وريثة الإتحاد السوفياتي السابق العملاق، إلى دولة مارقة، تتلاعب بها أهواء الإرادات الخارجية، و” تتناتش “مصالحها، الشركات الإنترنسونية.
رويدًا رويدًا، ولبنة فوق لبنة، ابتدأ القيصر بعملية ” إعادة البناء “، بمساندة حزبه ” روسيا الموحدة “.
تمكن من الثبات أمام ما أنفقه الغرب من أموال طائلة لدعم المعارضة الروسية الغير منظمة، وسقطت “ثوراتهم الملونة” على أبواب الكرملين، رغم نجاحها في جورجيا وأوكرانيا. (وهم الحديقة الخلفية لروسيا الاتحادية).
في عام 2014، حدث تاريخي في مسار تطور الأمة الروسية، استعاد القيصر شبه جزيرة القرم إلى وطنها الأم، وكيف لا، والجزيرة بوابته الأساسية للمياه الدافئة على البحر الأسود ومربط أسطوله الحربي البحري.
ولم يكن كل هذا ممكنًا، لولا تبني الرئيس بوتين لإستراتيجية سياسية جديدة تقوم على تحديث وتجهيز وتدريب وتأهيل القوات المسلحة الروسية بأحدث الوسائل والتقنيات، وأعاده الاعتبار للقوة العسكرية الروسية، عبر تفعيل الصناعات العسكرية وتطويرها، ليصبح جيشه الثاني عالميًا بعد الأميركي.
بعد عملية إعادة القرم الى حضن الوطن، بدأ الغرب بفرض حصار اقتصادي واسع النطاق مع عقوبات دولية على روسيا الاتحادية، أستغلها القيصر لمصلحة بلاده، حيث أثبت قدرته على الاعتماد بشكل أقل بكثير على الاستيراد، مما شجع الصناعات المحلية، وأنتقل بسرعة لعملية الاكتفاء الذاتي على كل الصعد، الزراعية والعسكرية والانتاجية كافة.
وفي نفس الوقت، وبنصيحة من حاكمة المصرف المركزي الروسي، استطاع بوتين التخلص من التأثير المستمر لصندوق النقد الدولي على النظام المالي الروسي، وأنتقل بسلاسة الى فرض التعامل بالروبل الروسي في المبادلات التجارية، وخصوصًا في قطاع الطاقة.
حصن مواقفه عبر جمع دول العالم الصاعدة للمطالبة بحقوقها، في مجموعة البريكس.
لم تتوقف الولايات المتحدة عن محاولات تطويق روسيا الاتحادية و بل محاولاتها لتفكيك روسيا نفسها، حيث توسع حلف الناتو شرقًا، وضم دول وجمهوريات حلف وارسو والإتحاد السوفياتي السابق.
فتم استغلال أوكرانيا كرأس حربة في الصراع بين حلف الأطلسي وروسيا الصاعدة.
وتمحور الصراع حول ثلاث ملفات أساسية: محاولة أوكرانيا الانضمام الى حلف الناتو، وإعلان النية على نشر صواريخ نووية على الحدود المباشرة مع روسيا، ومحاولات أوكرانيا الانضمام الى الإتحاد الاوروبي.
وتفرعت منها لاحقًا، وضع اقليم الدنباس وأعلان جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ذات الأكثرية الروسية، استقلالهما، مما انعكس سلبا على العديد من الملفات الساخنة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وصولًا حتى الدينية بانفصال الكنيسة الأرثوذكسية الاوكرانية عن مرجعيتها الروسية.
تأجج الصراع العسكري ما بين روسيا وأوكرانيا، واستمرت المناوشات منذ 2014، حتى طفح الكيل وأعلن الرئيس بوتين في 2022 البدء بعملية عسكرية خاصة، عندما تأكد أن الهدف الغير معلن، هو عملية استنزاف طويلة على حدوده التاريخية، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، بدون تنازل أي طرف عن مطالبه.
رافقها في العام 2015، تدخل روسي مباشر، بناء على طلب الحكومة الشرعية في سوريا، للمساعدة على القضاء على التنظيمات الارهابية، من تنظيم داعش وأخواتها كانت المرة الأولى التي تشارك فيها روسيا عسكريا في صراع خارج أراضيها منذ بداية الحرب الباردة.
ويتساءل الكثيرون ما هي مصلحة روسيا في الانخراط في المعارك الدائرة ودعم النظام الشرعي في سوريا؟ وهنا نعود لبعد النظر الاستراتيجي للرئيس الروسي، وقراءته السياسية للمستجدات الدولية والاقليمية، بغض النظر عن التحالف التاريخي ما بين الدولتين، وتأكده أن محاربة الارهاب والتطرف والعنف مباشرة في سوريا، هو أفضل بكثير من انتظار نقل رعاة الارهاب، للمعركة الى شمال القوقاز، أي في حديقته الخلفية. التي تستطيع ان تهدد جديًا نمو الدولة الروسية، لتداخل العوامل الدينية والنزعات القومية الانفصالية، على المدى الحيوي والجيواستراتيجي للإمبراطورية القادمة.
ناهيك عن التواجد الوحيد العسكري لقاعدته في طرطوس واللاذقية، على مياه البحر الأبيض المتوسط، وأهمية تأمين مستقبل روسيا في الشراكة للسيطرة على مصادر الطاقة وخطوط إمدادها في منطقة الشرق الاوسط.
وكما لن ننسى ان روسيا جزءً كبير منها يعول على طريق الحرير الصينية التي كانت و لا تزال مشروع حيوي ومهم للاقتصاد العالمي الذي يخرج عن سيطرة أحادية الغرب وتوحشه الإمبريالي بالسيطرة على موارد الشعوب وحيويتها.
يسجل للقيصر إنجازات عديدة أخرى ،ابرزها انه حافظ على القيم العائلية، ودعم الرياضة، وعزز الوعي الذاتي والنزعة القومية لدى المواطنين الروس.
لقد بنى فلاديمير بوتين هوية جديدة لروسيا اليوم، ونجح في توحيد المجتمع الروسي، بجميع طبقاته وأطيافه وأعراقه ودياناته.
عمل لمصلحة الوطن الروسي المترامي الاطراف، والامة الروسية المؤلفة من عدة أعراق، ناور تكتيكيًا ولكنه حافظ على المسار الاستراتيجي لنهضة أمته وبلاده. نجح في تحدي الغرب وأحباط مخططاته.
أستنهض بوتين المارد الروسي من ثباته، ونقله الى موقع متقدم في المواجهة. يمكن القول انه بعد فوزه
ب 87,9 في المئة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية، تخالهم رجلًا واحدًا، منتفضون لكرامة بلادهم وعزها، صارخين ” ليحيا بوتين ولتحيا روسيا “….