خيط الحرير ينسج وحدة العالم

يقول سعادة في كتابه “نشوء الأمم” “إن الأسس والخطط العامة لتطور البشرية وارتقائها في ثقافاتها المادية تنتج عن تفاعل الإنسان والطبيعة بقصد تأمين سد الحاجة وبقاء الذرية”. يبحث البشر دائما عن أرض وبيئة خصبة للاستقرار والتكاثر ليصبحوا مع مرور الوقت كيانا غير قادر على تلبية احتياجاتهم المتزايدة باستمرار، فإما يلجئوا إلى الترحال من مكان إلى آخر، أو يسعوا لإقامة علاقات تجارية مع من جاورهم من الأقوام لتبادل السلع والأفكار والمهارات.

لجأت الشعوب في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة الأوروبية الآسيوية على مر التاريخ ولقرون طويلة إلى شق الطرقات من أجل ربط المواصلات لتطوير التبادل التجاري مع بعضهم البعض من جهة ومع شعوب الشرق الأقصى من جهة أخرى.

تجارة الحرير خلقت أبعادا وآفاق جديدة لمفهوم التجارة بدءاً من عهد أسرة هان الصينية (207 ق. م حتى 220م) عبر أوزبكستان الحالية بمدينتيها بخاري وسَمَرقَند برا وعبر الهند عن طريق البحر لتجارة التوابل التي عرفت حينها باسمها الشائع “طرق التوابل”، والتي أدت إلى خلق أكبر شبكة من الطرقات البرية والبحرية الاستراتيجية والمراكز التجارية والأسواق المخصصة لنقل وتبادل وتخزين وتوزيع البضائع.

طريق الحرير كناية عن طريقين كبيرين، أحدهما شمالي (صيفي) والآخر جنوبي شتوي كانوا يسلكونه في زمن الشتاء. امتدت الطرق من مدينة أنطاكية اليونانية الرومانية عبر الصحراء السورية عبر تدمر إلى قطسيفون (العاصمة الفارسية) وسلوقية على نهر دجلة، ثم شرقا فوق جبال زاغروس إلى مدينتي إكباتانا (إيران) وميرف (تركمانستان)، والتي اجتازت منها طرق إضافية إلى أفغانستان الحديثة وشرقا إلى منغوليا والصين، ومن الموانئ على الخليج الفارسي، حيث نُقِلَت البضائع عبر نهري دجلة والفرات كما اتصلت الطرق من هذه المدن بالموانئ على طول البحر الأبيض المتوسط (لبنان- صور)، والتي شُحِنَت البضائع منها إلى المدن في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية وإلى أوروبا.

هذا الطريق قد رسم حدود دول، وأعاد تشكيلها عبر التاريخ لكي تتماشى مع الإمدادات والواردات من الصين والهند لأكثر من 1500 عام. إن الطمع والجشع العثماني الذي بدأ عام 1453 حيث هيمن محمد الفاتح على منطقتي البحر الأحمر ومضيق الدردنيل عندما أقدم على قطع طريق الحرير التاريخي أمام دول أوروبا لتصبح حقوق التجارة الحصرية مع دولة المغول (1526 إلى 1857) عبر المحيط الهندي، وهو ما صعّب التجارة الدولية على أوروبا. بعيداً عن السيطرة العثمانية والضرائب والرسوم التي فرضتها عليهم بحكم موقعها الاستراتيجي الجغرافي أجبر الأوروبيون للبحث عن حلول وسياسات تجنّبهم دفع هذه الرسوم والضرائب، مما أدى إلى اللجوء إلى الاستكشاف عن طرق بحرية جديدة ونشوء عصر الاستعمار الأوروبي الذي غير وجه العالم الاقتصادي والسياسي حتى يومنا هذا.

ومن المثير للاهتمام أن الكلمة اليونانية القديمة للصين هي “Seres”, والتي تعني حرفيا “أرض الحرير. ومع ذلك، على الرغم من هذا الارتباط الواضح بالاسم، لم يصغ مصطلح “طريق الحرير” حتى عام 1877، عندما استخدمه الجغرافي والمؤرخ الألماني فرديناند فون ريشتهوفن لأول مرة لوصف طرق التجارة. يفضل المؤرخون الآن مصطلح “طرق الحرير”، والذي يعكس بشكل أكثر دقة حقيقة وجود أكثر من طريق واحد.

شملت التجارة على طول ما يسمى بالحزام الاقتصادي لطريق الحرير الفواكه والخضروات والماشية والحبوب والجلود والتماثيل والتحف الدينية والأعمال الفنية والأحجار الكريمة والمعادن والتوابل. كان للسلع مثل الورق والبارود المخترعين خلال عهد أسرة هان أهمية واهتمام خاص؛ لأنهما كانتا من بين العناصر الأكثر تداولا بين الشرق والغرب، وقد أثرا بشكل واضح ودائم على الثقافة والتاريخ في الغرب.

عزز وصول الصحيفة إلى أوروبا تغييرا صناعيا كبيرا، حيث أصبحت الكلمة المكتوبة شكلا رئيسيا من أشكال الاتصال الجماهيري لأول مرة؛ مما مكن من تبادل الأخبار والمعلومات على نطاق أوسع. وكان لانتقال البارود بشكل هائل تأثيرا هائل على التاريخ السياسي الأوروبي. إذ إنه تم تحسينه وتطويره بشكل كبير من قبل الأوروبيين في سبيل استخدامه في المدافع في إنجلترا وفرنسا وأماكن أخرى في أواخر القرن الثالث عشر. وكان للدول القومية التي لديها إمكانية الحصول عليه أفضلية واضحة في الحرب. وربما الأهم من ذلك كله اللغة والثقافة والمعتقدات الدينية والفلسفة والعلوم.

لم يقتصر شأن طريق الحرير على التبادل التجاري بين شعوب الأمم القديمة فقط، وإنما ساهم في خلق آفاق إنسانية أخرى حيث انتشرت وانتقلت عبره التقاليد والأعراف والأديان، فتعرف العالم على الكونفوشية والهندوسية والبوذية والطاوية والزردشتية والمجوسية، كما وأنه عرف شعوب الشرق الأقصى الديانات التوحدية من مسيحية وإسلامية ويهودية والأسرار اليونانية الإلهية والنصوص الفرعونية وأيضا حضارات وادي الرافدين وسوريا وفينيقيا منها السومرية والأكادية والبابلية والآشورية. نتج عن تبادل هذه الحضارات العريقة خاصة في اليونان وروما مدارس في اللاهوت والميثولوجيا الميتافيزيقيا نذكر أهمها:
1- الحركة الأسينة المسكونية المتمركزة في دير قمران ودير الكرمل في فلسطين.
2- الحركة الغنوصية (العلم الإلهي) العالمية.
3- إنشاء مكتبة الإسكندرية الشهيرة في القرن الثالث التي كانت تضم جميع النصوص الحضارية والملكية و الثيولوجيا، والتي أحرقت عمدا لإخفاء نصوص إلاهية وسرقة بعضها بغرض الاحتفاظ بها كأسرار.

يعدّ الحرير من أفضل أنواع الأقمشة، وهو لباس أهل الترف والنعيم، يمتاز بملمسه الناعم وفخامته، ومتانة نسيجه، وهو ملائمٌ لمختلف أحوال الطقس، فيمد لابسه بالدفء شتاءً والبرودة صيفاً، وقد ذُكر في القرآن الكريم على أنه لباس أهل الجنة: “أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب، ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا”،

 هناك نوعان من الحرير، الأول وهو الفاخر والطبيعي ويسمى بالبري، وأما الثاني فهو المستذرع حيث يجمع المزارعون الديدان، ويربّونها ويهيّئون الظروف المناسبة لها. السندس والإستبرق هما من أفضل أنواع الحرير على الإطلاق فهما لباس أهل الجنة، فالسندس هو الديباج النفيس الناعم الرقيق والشفاف له بريقٌ أخّاذ، وأما الإستبرق فهو ديباجٌ ثخينٌ غليظٌ لا يشّف ولا يصف، جميلٌ له بريقٌ شديدٌ، ومعنى الديباج نوعٌ من الحرير المنسوج، وأصل كلمتي سندسٌ وإستبرق فارسي، فالسندس يُلبس على الجسد مباشرةً ويلامسه، بينما الإستبرق يُلْبَس فوق الثياب من الخارج.

إن أصل الحرير سائلٌ لزج تفرزه يرقة دودة القز، وتلفّه على نفسها، وما أن يلامس هذا السائل الهواء حتى يشتد قوامه ويتصلّب، ويتحوّل إلى خيوط الحرير المعروفة، ثم يأخذه المختصّون، وينسجونه ويحوّلونه إلى أنواع مختلفةٍ من الأقمشة الحريريّة.

غير أن النشاط الاقتصادي، ظل دوماً هو العاملُ الأهم، الأظهر أثراً. ويكفي لبيان أثره وأهميته، أن طريق الحرير أدَّى إلى تراكم المخزون العالمي من الذهب في الصين، حتى صارت الصين وحدها، تمتلك أكبر مخزون للذهب والفضة والبخور في العالم.