بريق الذهب قد يلمع أكثر وسط تخفيضات مرتقبة في معدلات الفوائد

لا شك في أن الذهب الذي لا يدرّ أي عوائد أو فوائد لم يكن يوماً أداة استثمار يُبنى عليها لتحقيق مكاسب مستدامة، بل أداة تحوّط ضد التضخم للحفاظ على الرساميل من تآكل قيمتها جرّاء ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وأداة لها طابع الملاذ الآمن التي يلجأ إليها المستثمر في أوقات الحروب أو الأزمات الاقتصادية، حين يتجنّب المستثمر الأدوات الاستثمارية ذات المخاطر المرتفعة كالعملات المشفرة والمشتقات المالية والأسهم وغيرها. عليه، فإن الذهب وسندات الخزانة هما من أهم الملاذات الآمنة، ولكن لابدّ من التذكير هنا بالعلاقة العكسية بين سعر الفائدة الأمريكية وسندات الخزانة والدولار الأمريكي من جهة وأسعار الذهب من جهة أخرى، والتي تستند على معدل العائد على سندات الخزانة. فعند رفع سعر الفائدة ترتفع عوائد السندات كما وترتفع العوائد على الإيداعات المصرفية. وبالتالي يزداد الطلب على الدولار للاكتتاب في سندات الخزانة الأمريكية أو لإيداعه في المصارف، طمعاً بالعوائد المرتفعة وبالأمان. عليه، يقوم المستثمرون باستبدال الذهب بالدولار، فينخفض الطلب عليه في السوق وبالتالي ينخفض سعره، وهو ما لاحظناه في العام 2022 حين ارتفعت أسعار الفائدة الأمريكية عدة مرات وانخفض معها سعر أونصة الذهب من 1,985 دولار للأونصة في آذار 2022 إلى 1,644 دولار للأونصة في تشرين الأول 2022.
في الواقع، ما شهدناه مؤخراً من ارتفاعات قياسية في أسعار الذهب العالمية يُعزى إلى عاملين أساسيين:
الأول، مرتبط بالتطورات الجيوسياسية حول العالم من الحرب الروسية في أوكرانيا والحرب الأخيرة في غزة، والتي دفعت المستثمرين والمصارف المركزية حول العالم للجوء الى الذهب كملاذ آمن في ظلّ الضبابية في الأسواق والمخاوف من اتساع رقعة الحرب. وهنا تكشف تقارير اتجاهات الطلب على الذهب أن البنوك المركزية حول العالم، واصلت الطلب على الذهب خلال العام 2023، بحيث سجل مجمل الاستهلاك العالمي ارتفاعاً بنحو 3% ليصل إلى 4,899 طناً في العام 2023، وهو أعلى مستوى مسجل منذ العام 2010.
أما العامل الثاني فهو مرتبط بالتوقعات بانتهاء دورة التشديد النقدي أو سياسات رفع معدلات الفوائد حول العالم واتجاه المصارف المركزية إلى تخفيض معدلات الفائدة في العام 2024، على اعتبار أن نسب التضخم حول العالم في احتواء مستمر وقد أصبحت نوعاً ما أقرب الى النسب المستهدفة من قبل المصارف المركزية، وهو ما دفع بأسعار الذهب نحو مستويات قياسية جديدة تجاوزت عتبة الـ 2,180 دولار للأونصة، ليصبح الذهب أكثر جاذبية من الاستثمار في الدولار أو سندات الدين. في هذا السياق، لا بدّ من التذكير إلى أنه بهدف مواجهة أسرع وتيرة تضخم منذ أكثر من 40 عاماً، وهي الناجمة عن تداعيات سياسات التحفيز المالي بُعيد تفشي وباء كورونا من جهة، وارتفاع أسعار السلع في ضوء الحرب الروسية الأوكرانية من جهة أخرى، رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة 7 مرات في العام 2022، فيما رفعها 4 مرات وثبّتها 3 مرات في العام 2023، وذلك في أكبر زيادة في معدلات الفوائد منذ العام 1994، من نطاق تراوح بين 0.25% و0.50% إلى نطاق يتراوح بين 5.00% و5.25% وهو أعلى مستوى له منذ 22 عاماً.
ما ينبغي قوله إن العام 2024 سيشهد بطبيعة الحال تراجعاً في معدلات الفوائد خاصة في النصف الثاني من العام، وإن قد نشهد تأجيلاً مرتقباً في عملية خفض الفوائد في الفصل الثاني منه، خاصة إذا ما سُجل نمو اقتصادي إيجابي في الاقتصاديات الكبرى وتفعيل للعجلة الاقتصادية حول العالم وثبات معدلات التضخم فوق النسب المستهدفة، ما يعني الإبقاء على معدلات الفوائد عند مستويات مرتفعة نسبياً. عليه، فإن الذهب لن يكون ضمن أولويات المستثمرين لأن التوجّه سيكون نحو العملات المشفرة والأسهم وغيرها من الاستثمارات ذات المخاطر المرتفعة، وهو ما شهدناه مؤخراً من ارتفاعات كبيرة في أسعار الاسهم والعملات المشفرة، نتيجة عودة المستثمرين إلى المجازفة والمخاطرة طمعاً بالمكاسب السريعة، وهذا ما قد يؤثر سلباً على أسعار الذهب التي قد تشهد بعض التذبذب تحديداً في الفصل الثاني من العام. وبالتالي فإننا قد نكون أمام عاملين قد يتصارعان، هما عامل النمو الاقتصادي العالمي الضاغط سلباً على أسعار الذهب من جهة، وعامل تراجع معدلات الفوائد المحفّز لأسعار المعدن الأصفر، والغلبة طبعاً للأقوى. من هنا، يرى المحلّلون أن أسعار الذهب في طريقها للوصول إلى مستويات مرتفعة جديدة خلال العام 2024، مستشهدين بعدم اليقين الجيوسياسي والضعف المحتمل للدولار الأميركي والتخفيضات المحتملة في أسعار الفائدة، ناهيك عن أن مستقبل توازن الاقتصاد العالمي لن يكون معتمداً على أمريكا لوحدها بسبب قوة الصين أو صعود قوى أخرى مثل الهند واستمرارهم المتوقع في عمليات شراء الذهب، مع توقعات بأن تصل أسعار الذهب إلى حدود 2,400 دولار في نهاية العام 2024.
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أن لبنان يملك حوالي 286.8 طناً من الذهب، ويحتل المرتبة الثانية عربياً والمرتبة 20 عالمياً باحتياطيات المعدن النفيس، تقدّر قيمتها اليوم، وفق أسعار الذهب الحالية، حوالي 18.8 مليار دولار، ما يعني أن قيمتها ارتفعت بحوالي 2 مليار دولار منذ بداية العام 2023. وبالتالي فإن ذهب لبنان يبقى اليوم المظلة رغم اشتداد الأزمات، ويشكّل الضمانة الأخيرة التي يمكن أن يُعوّل عليها لحلّ الأزمة الاقتصادية الراهنة، ولكن شرط عدم تبديده بغياب خطة تعافي واضحة وإصلاحات جوهرية. مع الإشارة إلى أن احتياطي ذهب لبنان يخضع إلى قانون النقد والتسليف مما يمنع المسّ به من دون قرار سياسي صادر عن مجلس النواب، ويحتفظ لبنان بثلث احتياطي الذهب في قلعة “فورت نوكس” الأمريكية، فيما أبقى على الثلثين في خزائن المصرف المركزي في بيروت.
في الختام، لا بدّ من القول إن الذهب ليس إلا محطّة نلجأ اليها في وقت الأزمات العصيبة، وعندما تنحسر المخاوف والضبابية في الأسواق وتتحسّن الأوضاع الماكرو اقتصادية حول العالم، لن يكون حينها الذهب ضمن اهتمامات المتداولين والمستثمرين وسيشهد بطبيعة الحال تراجعاً في أسعاره. وإذا عدنا إلى الأعوام الخمسة عشر الاخيرة، نرى بأننا شهدنا تقلبية ملحوظة قي أسعار الذهب التي قاربت عتبة الـ 2,000 دولار للأونصة أكثر من مرة، على سبيل المثال في العام 2011 حين وصلت أونصة الذهب إلى حدود 1,920 دولار، ثم عدنا لنشهد من بعدها مستويات قاربت 1,060 دولار للأونصة في العام 2015. وبالتالي أي أداة استثمار تسجل تقلبية لافتة بهذا الشكل يعني أنها قد تحمّل المستثمر مخاطر كبيرة هو بغنىً عنها.