«لا يوجد ما نناقشه حول أمن إسرائيل… أمنها هو جزء رئيس من جوهر وجود الدولة الألمانية.»
-أنجيلا ميركيل (المستشارة الألمانية 2005-2021)
منذ بدء الحرب بين روسيا وأوكرانيا عام 2022 شهدت أوروبا حالة من الذعر حول أمنها القومي لم تشهده منذ الحرب العالمية الثانية. كان على رأس هذه الدول ألمانيا – القائد الفعلي للاتحاد الأوروبي، وأقوى اقتصاد في أوروبا، ورابع أقوى اقتصاد في العالم، والحليف الأوروبي الأول بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
حذت برلين حذو واشنطن في توحيد العالم، سيّما أوروبا، لمواجهة روسيا، من خلال إطلاق المبادرات والمعاهدات والمشاريع التي كان رأسها مبادرة “درع السماء الأوروبية” التي أطلقها المستشار الألماني أوليف شولز عام 2022 بهدف تعزيز الدفاعات الجوية الأوروبية من خلال شراء أنظمة دفاع جوي أحدث وأقوى من تلك التي كانت تمتلكها دول الإتحاد الأوروبي. وافقت 19 دولة من دول الإتحاد على المبادرة، رغم معارضة كلٍّ من إيطاليا، إسبانيا، بولندا، وفرنسا بحجة رغبتهم باستخدام صواريخ أوروبية الصنع.
هُنا سيظهر دور الكيان الإسرائيلي ومن خلفه الأمريكي للحصول على جزء من كعكعة المليارات الموزعة. وبالفعل، في آخر سبتمبر عام 2023 وقعت إلمانيا صفقة ضخمة مع الكيان الإسرائيلي بلغت قيمتها 3.5 مليار دولار لشراء صواريخ دفاع جوي إسرائيلية من نوع Arrow-3 القادرة على إسقاط الصواريخ الباليستية الروسية والإيرانية.
انتهز وزير حرب الاحتلال “يوآف غالانت” الذي وقع الصفقة مع نظيره الألماني بوريس بيستوريوس، الفرصة كعادة “الإسرائيليين،” للتذكير ب “المحرقة” ليقول إن هذا التوقيع هو «حدث مهم في تاريخ كل يهودي، وأن خلال ثمانين عامًا فقط بعد الحرب العالمية الثانية، يشارك اليهود في بناء مستقبل أفضل لألمانيا…»
لم يغطي كلام غالانت على السبب الحقيقي وراء فرحة اليهود بالصفقة، فهذه الصفقة تعتبر الأضخم في تاريخ الصناعة العسكرية الإسرائيلية على الإطلاق. كما تدل على إستمرار ألمانيا بدعم الكيان الإسرائيلي بشكل لا يقبل النقاش وفي كل المجالات تقريبًا.
فما سبب هذا الدعم الألماني الغير المشروط للإسرائيليين؟ وهل هو بسبب مظلومية “الهولوكوست” فقط؟
بالحقيقة تعتبر ألمانيا الشريك الأوروبي الأهم لإسرائيل، ففي عام 2022 وحده وصلت قيمة صفقات التبادل التجاري بينهم لما يقرب ال 9 مليار دولار. كما تعتبر الشركات الألمانية، ثاني أهم الشركات بعد نظيرتها الأمريكية بالبنية التحتية للاقتصاد الإسرائيلي.
حجر الزاوية في هذه العلاقة الإسرائيلية-الألمانية هو تعويضات الهولوكوست التي بلغت منذ عام 1952 إلى عام 2021 ما يقرب ال 80 مليار دولار كتعويضات لليهود منهم29 مليار دفعهم الألمان لضحايا الاضطهاد النازي للمستوطنين في فلسطين.
بالحقيقة، لفهم هذا الالتزام الألماني الغريب في تأمين رفاهية إسرائيل علينا أن نرجع إلى عام 1950 حين أنقذت ألمانيا الكيان المحتل الهش والوليد في كافة الأحداث المصيرية له…
فمنذ إعلان القيام المزعوم للكيان عام 1949 دعمت جمهورية ألمانيا الغربية كيان الاحتلال بمختلف المساعدات العسكرية والمادية من خلال التعويضات والقروض والهدايا والخدمات الفنية والأفراد المدربين خاصة بين أعوام 1950-1967.
في هذه الفترة تحديدًا، كان اقتصاد الاحتلال يواجه صعوبات أمام بعض الاقتصادات العربية الراسخة. مثلًا، كان الكيان يعاني من نقص حاد في الكهرباء، ما أثر على تشغيل المصانع لفترات طويلة، وكبل كافة قطاعات التنمية الاقتصادية. ولو راجعنا سجلات احتياط الكيان من العملات الأجنبية لوجدناه يكاد يكون معدومًا. وفي تلك الفترة، لم تقبل أي دولة أن تمنح إسرائيل قروضًا ميسرة.
هنا يمكننا أن نعتبر أن ألمانيا الغربية، أنقذت الكيان حرفيًا وقدمت له كل شيء؛ مثلًا، ساعدت الأموال التي ضخها الألمان في الاقتصاد الإسرائيلي بشكل “تعويضات” على شراء النفط اللازم لتشغيل المصانع. ولم تتوقف مساهمات الألمان السخية عند هذا الحد…
فمهندسي ألمانيا الغربية بنوا للإسرائيليين خمس محطات لتوليد الطاقة الكهربائية مما ضاعف إنتاج الطاقة في الكيان أربعة أضعاف خلال ثلاث سنوات فقط 1953-1956. كما قاموا بتحسين وتوسعة شبكة النقل والتوزيع الإسرائيلية، فمدوا خطًا لسكة الحديد من تل أبيب حتى بئر السبع، كما جددوا خط القطار من القدس إلى تل أبيب وسلموا الصهاينة 400 عربة للقطارات وعدد من محركات التحويل ومعدات الإشارة، مما حوّل شبكة قطارات الاحتلال إلى شبكة متطورة وسريعة.
كما أرسلوا عددًا كبيرًا من الأوتوبيسات الحديثة -نصف الأوتوبيسات الإسرائيلية عام 1956 كانت من ألمانيا الغربية. وعلى المستوى البحري، قاموا بتوسعة ميناء حيفا، ورفعوا تصنيفه الدولي بين أكبر مرافئ العالم من المركز الرابع إلى المركز الثاني. كما أرسلت الشركات الألمانية 59 سفينة و4 سفن ركاب وعدد من المراكب الخاصة.
لم تكتف ألمانيا عند هذا الحد، بل مدت وحسنت أنظمة الهاتف والتيليغراف وأرسلت معدات لاستخراج المعادن من أرض الفلسطينيين وبنت مصنعًا للنحاس،-كان وقتها من أهم مصادر الدخل القومي للكيان المحتل- وجُهز نحو 1300 مصنع إسرائيلي بالمعدات الألمانية المتطورة. كما أرسلت 200 ألف طن حديد، وأطنان من المعادن الأخرى لتشغيل المصانع الإسرائيلية… وعلى المستوى الزراعي، مدو 280 كلم من أنابيب توصيل المياه العملاقة إلى منطقة النقب.
أما على مستوى المساعدات العسكرية، فكان من المعروف سنة 1964 أن ألمانيا الغربية تدرب جنود الاحتلال وتزود إسرائيل بالأسلحة بشكل سري -لم يعلن عن هذه العلاقة حتى عام 2014 عندما رُفعت السرية عند بعض الوثائق- التي كشفت أن ألمانيا زودت الاحتلال مع بداية الستينيات ب 50 طائرة حربية و 200 دبابة أمريكية وغواصتين و 6 زوارق سريعة وعدد من الشاحنات وصواريخ مضادة للطائرات وصواريخ مضادة للمدرعات.
مع كل هذه المساعدات العسكرية والاقتصادية تعاظمت قوة الاحتلال الإسرائيلي سيمّا في الخمسينيات وحصنت كيانه. مما زاد التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية.
بالمقابل، عندما سئل المستشار الألماني كونراد أديناور -المستشار الألماني في الخمسينيات والستينيات و “صانع مجد ألمانيا الغربية الحديثة”- عن دعمه للإسرائيليين بمقابل تجاهله لملف اللاجئين الفلسطينيين أجاب ب “عدم امتلاك الألمان الحق والقدرة للمبادرة بشأن الفلسطينيين.”
لطالما بررت ألمانيا التزامها تجاه الإسرائيليين بجرائم النظام النازي… لكن هل هذه هي الأسباب فعلًا؟
في الحقيقة، كان لألمانيا الغربية أهدافًا سياسية واقتصادية ضد ألمانيا الشرقية الخاضعة للاتحاد السوفييتي. لذلك، كان على الألمان الغربيين أن يحسنوا علاقتهم مع الولايات المتحدة الأمريكية. فعندما طلبت أمريكا دعم الاسرائيليين، أجاب الألمان بالسمع والطاعة…
كانت ألمانيا الغربية حريصة جدًا على الاندماج بالغرب بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب ما يرافق ذلك من العديد من المزايا الهامة جدًا، كتوسع فرص ألمانيا التجارية في الدول الرأسمالية، وزيادة نفوذ السياسيين الألمان في دوائر صناعة القرار الغربية.
والأهم من ذلك، أن اقتصاد ألمانيا الغربية كان “مرتبكًا” وغير واضح المعالم بدون مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية. يعني، كان مستوى المعيشة في ألمانيا منخفضًا بالمقارنة مع بقية دول أوروبا الغربية، وحتى بالمقارنة مع ألمانيا النازية نفسها قبل الحرب. وبنفس الوقت، كانت أمريكا تضغط بشدة على الأوروبيين الغربيين لإنتاج أسلحة بكثافة، مما قلص قدرتهم على إنتاج سلع للاستهلاك المحلي أو التصدير. وبالتالي، فتحت أسواقهم أمام السلع الأمريكية، مقابل أن تلك الأسلحة التي يقومون بإنتاجها كانت بحاجة للتصريف…
وفي مؤتمر لندن عام 1952 أصرت أمريكا، أكبر دائن لألمانيا الغربية، على أن تسدد ألمانيا ديونها قبل الحرب وبعدها -ديون خطة مارشال- مما صعب على الألمان الغربيين تجاهل مطالب الولايات المتحدة الأمريكية بما يتعلق بأي شيء مهم، وعلى رأس تلك الأشياء كانت إسرائيل. الأهم من ذلك، هددت إسرائيل مسؤولي ألمانيا الغربية بشكل صريح في اجتماعاتهم المغلقة بشن “حرب اقتصادية” يقودها كبار اقتصاديي العالم اليهود، وذلك يمكننا أن نعتبره من أوائل المواقف التي ظهر فيها تأثير اللوبي اليهودي على قرارات الدول الغربية.
برغم سقوط الاتحاد السوفييتي، وتوحيد ألمانيا، لم يتوقف خط دعم الألمان للإسرائيليين. ففي نهاية التسعينيات سلمت برلين للبحرية الإسرائيلية أول ثلاث غواصات من طراز “الدولفين” وهي صفقة دفعت تكاليفها الحكومة الألمانية التي كان يرأسها المستشار هلموت شميث. وفي عام 2012 اتفقت ألمانيا برئاسة ميركل مع إسرائيل نتنياهو على بيع 4 غواصات ألمانية نووية متطورة دفعت ألمانيا جزء كبير قيمتها، رغم “بعض الخلافات” التي كانت بين ميركل ونتنياهو حول استمرار الكيان ببناء المستوطنات في فلسطين. مما دفع ب “يورام بن زئيف” السفير الإسرائيلي السابق في ألمانيا بأن يصف ميركل بأنها «صديقة حقيقية لإسرائيل، وأن أمن إسرائيل هو مبدأ شخصي لها يتجاوز الخلافات».
أسطول الغواصات النووية هذا، الذي قدمته ألمانيا للصهاينة، ساهم بشكل مباشر بحماية منصات التنقيب عن الغاز الفلسطيني ضد صواريخ حزب الله، وساهم ببسط سيطرة الاحتلال على المياه الفلسطينية وخاصة المناطق المتاخمة للساحل اللبناني.
بيع هذه الغواصات كان في ذروة جرائم الاحتلال عندما قصف قطاع غزة بالطائرات عام 2014. وبعد أن قتل الكيان مئات الفلسطينيين، وقتها، وقفت ميركل أمام الآلاف ممن كانوا يتظاهرون من أجل “معاداة السامية” لتقول بالنص: «أي شخص يهاجم اليهود في ألمانيا هو يهاجم ألمانيا كلها، وأن وجود 100 ألف يهودي يعيشون بألمانيا هو معجزة وهدية تشعرها بالامتنان العميق». هذا الكلام يظهر مدى النفوذ الإسرائيلي في ألمانيا، وخاصة مع فزّاعة “معاداة السامية” ويوضح مدى تبعية ألمانيا لخط السياسة الأمريكية.
ولهذا السبب، كان المستشار الألماني “أوليف شولز” أول رئيس غربي يصل إلى الكيان بعد عملية 7 أكتوبر، والذي صرح عن دعمه المطلق ل “حق الكيان بالدفاع عن نفسه”.
تصريح شولز كان واضح أيضًا من خلال الدعم العسكري الغير محدود لإسرائيل، فارتفعت صادرات ألمانيا للكيان المحتل في شهر أكتوبر لما تجاوز ال 300 مليون يورو منها قيمة ذخائر سحقت جماجم أطفال غزة، جاوزت ال 20 مليون يورو، وهو عشرة أضعاف قيمة ما صدرته ألمانيا لإسرائيل عام 2022 (30 مليون يورو).
طبعًا هذا التأييد لم يكن بصورة صادرات أسلحة فقط، بل اتخذ شكل سياسي وأمني…
كمداهمة الشرطة الألمانية ل 54 عقار في إطار حملة لتقييد ما وصفتهم ألمانيا ب “الإسلاميين المناهضين لإسرائيل”. كما فتحت السلطات الألمانية تحقيقًا مع المركز الألماني للدراسات الإسلامية في هامبورغ بتهمة إجراء تواصل مع إيران وحزب الله.
الدعم الغير مشروط لإسرائيل يضع ألمانيا بمشاكل داخلية كبيرة، فهذه الهيمنة الإسرائيلية على مراكز النخب الألمانية، التي استمرت إسرائيل بدعمها بدعايات جبارة للمحرقة، وإحياء ذكراها بكل الاشكال في الثقافة الشعبية الألمانية. بدأ يواجه في العدوان الأخير أزمة ظهرت من خلال عدم تأييد معظم الألمان لدعم الحكومة الألمانية لإسرائيل بهذا الشكل الفج، ما أظهره استطلاع الرأي الأخير الذي قام به معهد انسباخ الألماني.
طبعًا هذا دليل مهم جدًا، من بين أدلة كثيرة، يظهر أن سردية القضية الفلسطينية تخوض معركة مع السردية اليهودية في المجتمع الألماني وتقوم باختراقات مهمة تنسف الرواية الإسرائيلية وتجعلها في مواجهة أزمة أكثر من أي وقت مضى. خاصة في أوساط الشباب اليساري الألماني الذي بدء يفكر بالقضية الفلسطينية بعكس الأجيال التي سبقته والتي سلمت بالرواية اليهودية.