ظاهرة الروحية القومية

أنطون سعاده رجل عظيم ظهر في هذا الوجود كهبة كبيرة جادت بها السماء على بلادنا المنكوبة.. رجلاً منقذاً ومعلماً وهادياً لشعبه، ماشياً في الحق وحاملاً مشعالاً يضيء ظلام الأمة ويشّقُ طريق الوعي والبطولة لنهوضها وتقدمها.. منبهاً إلى حقيقتها ومقاصدها السامية ومعيّناً مصلحتها ومدافعاً عن حقوقها وباعثاً نهضتها الشاملة. هذا الرجل العظيم بعقله الكبير وفكره الثاقب وبرغائبه العالية وشخصيته المتميزة وقدوته النادرة، زرع الإيمان واليقين والأمل في النفوس وأحدثَ بتعاليمه النهضوية “أعجوبة الدهر” المتمثّلة بانبعاث الأمة من الموتِ وعودتها إلى الحياة، إلى وجدانِها ومعرفتِها، إلى بناءِ نفسها في نهضةٍ قوميةٍ اجتماعيةٍ رائعةٍ ليعودَ دورها الحضاري والإنساني فاعلاً في الوجود..
أنطون سعاده جمعَ في شخصيته مزايا متنوعة: فهو المفكرُ والفيلسوفُ والعالمُ الاجتماعي الخبير بأوضاع شعبه ونفسيته، وهو المؤسسُ والقائدُ والمعلمُ – القدوة وصاحبُ القضية المقدسة. هذا الرجل لم يأتِ بالخوارقِ والمعجزات، ولكنه جاء بالتعاليم الجديدة المحيّية التي جمعت شتات الأمة ووحّدت المقبلين إليها من محمديين ومسيحيين ودروز “في إيمانٍ قومي اجتماعي واحد ينقذُ الأمة إنقاذاً كليًّا ويرتقي بها إلى قمم المجد..
أنطون سعاده المؤمن بالحقائق العلمية والاجتماعية، لم ينصرف إلى الأحلام والتمنيات منتظراً حصول العجائب والمعجزات، بل كرَّسَ حياته عملاً متواصلاً وعطاءًا سخيًا: فكرًا وأدبًا وإبداعًا وتنظيماً ومواقف، بغاية تحرير أمته وتحقيق يقظتها بتوليد وعي قومي صحيح يؤدي إلى إنقاذها من تخبطها وتشرذمها ويقضي على حزبيّاتها المتنافرة وعصبيّاتها الطائفية والعنصرية المشتتة وعلى جميع مشاكلها الروحية والنفسية. لقد حقق سعاده نجاحاً كبيراً بتوليد الوعي القومي واتخاذ القومية عاملاً روحياً وجامعاً حقيقياً للسوريين، موحداً قلوبهم وأفكارهم، وموجهاً قواهم في إرادة واحدة وعمل منظّم واحد نحو غايات الأمة العظيمة.
إن ما حققه أنطون سعاده ليس أمراً عادياً، بل تجربة رائعة تمثّلت بتحويل الأفراد المتبايني الاتجاهات والأغراض والمنافع إلى مجتمع قومي جديد متجانس في العقلية والإرادة والخطط والأساليب.. جعل منهم هيئة اجتماعية واعية ومتحدة في القضية والمقاصد وفي الإرادة الواحدة المستمدة من المصلحة الواحدة. لقد بنى سعاده النفوس في القومية السورية الجامعة وزرع فيها الأخلاق القومية الجديدة: أخلاق النهضة – أخلاق الصراحة والصدق والثقة الراسخة المتبادلة… أخلاق الإيمان والمثابرة والمحبة والعطاء، ودعاها للتخلي عن “أخلاق الشك والتردد” والتخاذل والخوف لأنها أخلاق فساد البيئة اللاقومية – أخلاق الأنانيين المساومين والمتمسكين بحياة القبح والذل والعبودية والخنوع، مشدِّداً بأن رجاء الأمة لا يكون إلا بالأخلاق القومية الجديدة.
لقد نجح سعاده بإيقاظ الوجدان القومي في فئات كبيرة من الشعب كانت تنتمي إلى طوائف متعددة في البلاد، فجعل منها كياناً قومياً واحدا يتكلمون بلسان واحد ومعبّرين عن حقيقة واحدة هي حقيقةُ الأمة وغايتها العظمى.. أن ما يجمع هؤلاء في المصلحة العامة هي وحدة الروح المتينة – هذه القوة الروحية العظيمة المتولّدة من المبادئ الجديدة التي شقّت طريقها لتعبِّر عن حقيقة الأمة الحيّة ومراميها..
إن “وحدة الروح” أو “الوحدة الروحية” أو “الروحية القومية” هي مسميات لظاهرة واحدة راقية تعتِّرُ عن عهد جديد، هو “عهد القومية والقيم الروحية والمناقب التي فيها جمال الحياة الإنسانية.” وهذه الظاهرة تعكس تجربة رائعة أو إنجازاً عظيماً حققه سعاده في حزبه السوري القومي الاجتماعي، ولقد عبّر عن هذا الإنجاز في مناسبات عديدة. ففي الخطاب الذي ارتجله في كردبة في حفلة الأول من آذار عام 1943، قال:

»كان أول اشتراك قومي الاجتماعي عام في ذكرى ميلادي أول أدلة تولّد وحدة الشعور في المجموع القومي الاجتماعي. وصار استمرار هذا الاشتراك عاماً بعد عام، البرهان القاطع على أنّ الوحدة الروحية بيني وبين رفقائي تزداد متانة مع مرور الأيام، وأنّ رابطة الجهاد القومي أصبحت أقوى رابطة تجمع القوميين الاجتماعيين حول زعيمهم ليكافحوا معه كفاحاً تهان فيه أجسادهم وتعتز به نفوسهم!”

وبعد أن تحدث سعاده عن “الإيمان القومي العظيم الذي يجمعنا شعباً واحداً وعقيدة واحدة ومصلحة واحدة وإرادة واحدة..”، أضاف:
»إنّ الذين يجهلون حقيقة أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي لا يدركون المعنى العميق الواسع لهذا الاجتماع ولا يفهمون المدلول العظيم المتعلق به، لأنهم يجهلون أنه في هذا اليوم، كما في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الذي هو يوم ذكرى تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، يجتمع في الوطن وفي المغترب عشرات الألوف ومئات الألوف من السوريين الذين اعتنقوا الإيمان القومي الاجتماعي ليثبوا وحدتهم الروحية والعملية في العقيدة والشعور والجهاد.”

وفي “محاضرة الزعيم في مؤتمر المدرسين” عام 1948، يعتبر سعاده
“أنّ قوة الـحزب السوري القومي الاجتماعي التي أحرزت له كل الانتصارات الباهرة هي قوّته الروحية ـ قوة نظامه العقدي.” ويؤكد أنّ “روح النهضة هو هذه القوة الفاعلة الغالبة.”
إن “الروحية القومية” تجمع القوميين الاجتماعيين وتربطهم ببعضهم في وثاق روحي- فكري -مناقبي. فهم أبناء عقيدة واحدة ولّدت في عقولهم الوعي القومي وكانت لهم عاملاً روحياً موحداً قلوبهم وأفكارهم ومرجعاً لأعمالهم وخططهم. لذلك يقول سعاده: أنّ الروحية القومية الحقّة شيء أسمى كثيراً من كل ما يتصوره الرجعيون والنفعيون في المسائل العمومية..”
وأهمية الروحية القومية التي وحّدت القوميين الاجتماعيين وجعلت منهم نسيجاً جديداً من الإرادة والأفكار، أنها ركيزة دائمة لوحدتهم العملية لا يمكن الاستغناء عنها مطلقاً. فهي شرط ضروري لتماسكهم ونجاحهم وانتصارهم. إن زعزعة الوحدة الروحية في صفوفهم، لا تحقق نجاحاً بل تضعضعاً وفئويات وانقسامات وفشلاً وفقداناً للأمل بأي انتصار ونهوض للأمة. لذلك يؤكد سعاده أنه “بدون هذه الوحدة الروحية الفكرية في الإرادة والعزيمة المرتكزة إلى شيء حقيقي واقعي، إلى مجتمع واحد في حياة واحدة ومصير واحد، بدون هذا الأساس لا يمكن النهوض ومواجهة الأفكار بأمل الانتصار.” الروحية القومية الصحيحة هي شرط لإشادة نهضة قومية اجتماعية سامية.
إن الذين يظنون أنه يمكنهم أن يحققوا أي انتصار من غير طريق الوحدة الروحية والعملية.. الوحدة في العقيدة والأهداف وفي الجهاد والخطط، هم ضالون ومضللون. لا يمكن أبداً أن نسير إلى اي انتصار بدون تعزيز الوحدة بين القوميين الاجتماعيين. والحق نقول، إن هاجس القوميين الاجتماعيين الدائم هو قضية أمتهم ومصيرها. فهم لا يعملون لمنافع ومصالح خصوصية ولا يساومون بين القضية والمآرب الخصوصية. هم كانوا وسيبقون جماعة واحدة تجمعهم الروحية القومية الحارة التي تولِّدُ في نفوسهم مشاعر الصدق والوفاء والمحبة القومية وتدفعهم للعمل بعزم وتفانِ وإخلاص والسير معاً بخطى ثابتة وإيمان لا يتزعزع في عقيدة جلية تساوي وجودهم من اجلها يقفون معاً وينتصرون كلهم معاً.
يا أبناء العقيدة القومية الاجتماعية، تذكروا وصية الزعيم إليكم:
“إنكم ارتبطتم بعضكم ببعض وربطتم أرواحكم بعضها ببعض لأنكم تعملون في سبيل المبادئ التي جمعتكم بعضكم إلى بعض. فابقوا منضمين متضامين وكونوا عصبة واحدة أينما سرتم وكيفما توجهتم.”