ما بعد الانسان، ما بعد الحداثة المتوحشة

ما بعد الانسان، ما بعد الحداثة المتوحشة

قررت اليونسكو تخصيص هذه الدورة من اليوم العالمي الدوري للفلسفة ، لعنوان مثير واشكالي هو (ما بعد الانسان) وقد سبق للباحثة الاسترالية روزي بريدوتي ان بدأت دراستها المعنونة (ما بعد الانسان) بسؤال لـ رسل : هل هناك مستقبل للانسان ، وتنتهي الى ان العالم بصدد بناء شكل جديد للانسان بعد نفي الفكر الفلسفي برمته الذي تراه متواطئا مع هذه الحقبة وليس ضحية لها.
فكل ما رافق الحرب الباردة من تيارات، هي تجارب فاشلة ، على حد قولها ، واصبحت النظريات منبوذة ، لكن المرحلة التالية لم تشهد مراجعة حقيقية ، كما تقول ، بل حل محلها نماذج سطحية التجريبية الحديثة ، بالتزامن مع ازدياد الحروب وتطور اساليبها
في الرد على ذلك وبحثا عن عالم جديد وانسان جديد (غير انساني في الواقع) تقدم الباحثة مشروعها من خلال اربع حالات:

  • سبينوزا، وارثه الفاعل جدا (الاحادية) مما يسمح بإعادة تعريف المادة بوصفها حيوية ومنظمة دائما (المادية الحيوية) عوضا عن المادية الجدلية والمادية الميكانيكية ،.- تشكيلات السلطة عند فوكو ، التي لاتعمل فقط على المستوى المادي ، بل يعبر عنها في انظمة التمثيل النظري والثقافية وسردياتها وانماطها الاجتماعية.
  • مقاربة دولوز وغواتاري لمصطلح الفوضى بوصفها تعبيرا عن هدير الطاقة الكونية ، مذكرين ايضا ما كتبه جيمس جويس.
    بالاتكاء على هذه الاحالات تقدم الباحثة الاسترالية ، قراءتها للذات ما بعد الانسان مرورا بالانسانوية العابرة .
    نشير ابتداء وقبل متابعتها معها الى ان الانسانوية العابرة مزيج من التيارات المتناقضة المحكومة لقاسم مشترك هو التكنولوجيا واللعب على دماغ البشر.
    فيما يخص روزي بريدوتي، الذات ما بعد الانسانية ليست جزءا من عالم ما بعد الحداثة وتصورات التفكيك والمنعطف اللغوي ولا محاولة لتجاوز (ألتغريب) بل اعادة انتاجه .
    انها اقرب الى التصورت التوليدية في زمن ما بعد الحداثة والانثروبولوجيا، ضمن ما تسميه بـ(النهج الحيوي) الذي يتجاوز (انسان الحداثة) الى نطاق اوسع للحياة البشرية وغير البشرية ، الى زوي ، البنية الديناميكية ذاتية التنظيم للحياة نفسها ، انها ذات ممتدة متعددة الاوجه وتتحقق من خلال الحيوية العلائقية ، ولعل اول متطلبات ذلك ، هو تطوير فكرة ديناميكية ومستدامة عن المادية الحيوية ذات التنظيم الذاتي
    فنظرية ما بعد الانسان هي اداة توليدية تساعدنا على اعادة التفكير فيما نعنيه بالانسان في عصر الهندسة الوراثية المعروف باسم “الانثروبوسين”
    النهج الحيوي للمادة الحية يحل محل الحدود بين ذلك الجزء من الحياة – سواء العضوية او الحوارية – الذي كان يخصص تقليديا للانسان /الانثروبوس اي الجزء الحي بيوس (bios)، والنطاق الاوسع للحياة الحيوانية وغير البشرية، المعروف ايضا بزوي، وزوي باعتبارها البنية الديناميكية ذاتية التنظيم للحياة نفسها.
    ان الذات ما بعد الانسانية البدوية هي مادية وحيوية متجسدة ومتضمنة، انها ثابتة في موقعها ،وفقا للمحايثة الراديكالية لـ”سياسة الموقع” التي اكدتها طوال هذا الكتاب، انها ذات متعددة الاوجه وعلائقية مفهومة ضمن انطولوجيا احادية، من خلال عدسات سبينوزا ، ودولوز وغاتاي، بالاضافة الى النظريات النسوية وما بعد الاستعمارية انها ذات تتحقق من خلال الحيوية العلائقية والتعقيد الاولي يميزان الفكر ما بعد الانساني نفسه
    اول هذه المتطلبات هو تطوير فكرة الديناميكية ومستدامة عن المادية الحيوية ذات التنظيم الذاتي والثاني هو توسيع اطار ونطاق الذاتية
    في هذا السياق ، تتوقف بريدوتي عند عناوين محددة:
    1- موت الانسان ( الرجل) وتفكيك المرأة وترى انه بمجرد ازاحة مركزية الانثروبوس فان غالبية الحدود بين الرجل / الانسان والاخر تبدأ بالانحلال مما يساعد على تمكين الانسان (الاخر) المصنف جنسيا من تحرير نفسه (العنصرية) من جدليات العلاقة بين السيد والعبد
    2- مقابل التناقض الشائع بين الطبيعة والثقافة ، والالات يسعى النهج الجديد الى تحقيق هدفين : الخروج الانثروبولوجي) اي اعادة التفكير في اجسادنا كجزء من استمرارية وتواصل الطبيعة والثقافة من حيث هياكلها العميقة في البنية المجسدة للذات الممتدة
    3- ان الالات المعاصرة ليست استعارات ، بل محركات تجمع القوى والطاقات وتعالجها لتسهيل العلاقات المتبادلة والتوصيلات والتجمعات المتعددة ، وهي بذلك ، ترمز الى شكل من العلائقية الراديكالية
    في التعليق على ذلك:
    1- ان التيارات الحديثة المذكورة ومنها (النهج الحيوي) ليست مجرد اجتهادات نظرية تلحظ دور التكنولوجيا والهندسة الوراثية وغيرها ، بل جزء من (صناعة ) سبق واشارت لاسلافها الباحثة البريطانية ، سوندرز في كتابها المبكر (من يدفع للزمار) الذي ترافق مع الجبهة الثقافية التي اطلقها الامريكان لملء ما اسماه بالفراغ الثقافي الناجم عن الانهيار السوفياتي .
    وليس بلا معنى كما تقول الباحثة الروسية اولغاتشيتفيريكوفا (دكتاتورية المستنيرين) ان التيارات الجديدة خرجت من كاليفورنيا التي خرجت منها التكنولوجيا الجديدة (نوادي السيليكون) وحركات مثل العصر الجديد
    ايضا وبحسب الباحثة الروسية ، فإنه في سياق اعادة هيكلية الوعي المرافق للتحولات المذكورة لم يعد المعلم هو من ينقل المعرفة ، بل التكنولوجيا ، مما يعني ان وعي العصر الجديد وتفكيره الجديد هو غياب الوعي والتفكير نفسه والانغماس في احاسيس صوفية جرى اعادة انتاجها في قلب الاتمتة.
    وترى في ذلك شكلا من اعادة انتاج القبالا (ألتصوف اليهودي) التي راحت تستخدم تقنيات الكمبيوتر ضد الطبيعة الانسانية ، جامعة خليطا من توظيفات (معاصرة) للغنوصية مع احدث الابحاث في مجالاات العلوم المختلفة ص153 – 163
    2- ما بعد الانسان ، ام الشعب المختار
    العصر الجديد ليس مفتوحا للجميع، فثمة تطهير عرقي عبر اشكال مختلفة من توظيف التكنولوجيا الى الهندسة الوراثية الى الفاشية البيولوجية، استمرارا للمالثوسية والداروينية الاجتماعية .
    مقابل فلسفة السيد، مجموعات مختارة (المليار الذهبي) لتكون قادرة على الانتفاع بالثورة التكنولوجية والصحة المرتبطة بها، فإن البقية يندرجون في اطار (فلسفة العبيد) واقرب الى مفهوم البهائم في العهد القديم اليهودي وسيستمتعون بقدر من التكنولوجيا (زرع الرقائق الالكترونية في ادمغتهم واجسادهم) بما يلي هذه الفلسفة وفقا للسيناريو الاكثر احتمالا ،كما تقول اولغا تشيتفيريكوفا سينخفض عدد البشر بالتدريج حتى يصلوا الى (الرقم الذهبي).
    يقول تيد تيريز مؤسس (سي ان ان) ان تخفيض 95% من البشر سيكون امرا جيدا، ومثله بيل غيتس والامير فيليب ودوق ادنبره .
    والاخطر من كل ذلك ان هذه اللعبة صارت جزءا من استراتيجية الامم المتحدة وهيئاتها (الصحة ، اليونسكو) تحت عنوان (الحد من النمو السكاني) بالمنطق المالثوسي.