“العصور المظلمة” تتجدد

قد يكون من السابق لآوانه الإستشراف الدقيق لمستقبل منطقتنا إعتماداً على ما ستسفر عنه معركة غزة وملحقاتها، والتي أشعلتْ نيرانَها المباشرة عمليةُ “طوفان الأقصى” الإستثنائية بكل المقاييس. وسواء نجحت أو فشلت المفاوضات المتعددة الجنسيات، الدائرة خلف الكواليس للوصول إلى حل مؤقت أو بعيد المدى، فإن ثمة مسائل يستطيع الباحث المدقق أن يتلمسها كاملة أو مفككة، هي نتاج المعركة وما أحاط بها ورافقها من إجراءات ومواقف إقليمية وعالمية ستنعكس جذرياً على أمتنا وشعبنا.
هناك دروس هامة للغاية ستتكشف لنا بعد أن ينجلي غبار المعركة غير المتكافئة. وسيكون لدى الباحثين والخبراء الاستراتيجيين الوقت الكافي لتحليل وتقييم مسار المواجهة، ليس فقط من لحظة التخطيط لعملية “طوفان الأقصى”، بل منذ أن فُرض الحصار الإسرائيلي ـ المصري الخانق على سكان قطاع غزة. ونحن نعتقد حتى الآن أن محاولة التكهن بما ستصل إليه أوضاع المنطقة بعد معركة غزة ستظل ناقصة وعاجزة إلى حد بعيد، وذلك لأن المعطيات الحقيقية الكاملة لن تصبح في متناول المحللين إلا بعد فترة طويلة من الزمن.
وسنحاول تحت طبقة الغموض المقصود الذي يراد منه ذر الرماد في العيون أن نستعرض بعض المسائل التي عرّتها “مجزرة غزة”، وإن كانت مكشوفة مسبقاً للذين يقرأون السياسة العالمية بالمنظور القومي الاجتماعي. أول ما يتبدى أمامنا هو ذلك السقوط المناقبي المدويّ لمنظومة القانون الدولي والتشريعات الملحقة به، والتي ترسّخت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي أعقاب حربين عالميتين مرعبتين، توصل “المجتمع الدولي” إلى قناعة بأن المجال متاحٌ لصياغة قواعد عامة مقبولة لدى الجميع، يمكن الاحتكام إليها لفض النزاعات أو ضبطها بدلاً من اللجوء إلى الحلول العسكرية المدمرة.
وعلى الرغم من نشوء المعسكرين المتناقضين، الرأسمالي والاشتراكي، بعد الحرب العالمية الثانية، فإن منظومة القانون الدولي الموضوعة في عهدة منظمة الأمم المتحدة ظلت قادرة على القيام بمسؤولياتها تحت سقف “الحرب الباردة”. طبعاً وقعت خروقات عديدة وخطيرة، وأقدمت الدول العظمى على تجاهل القوانين الدولية حسب مصالحها. إلا أن الغالبية العظمى من دول العالم، بغض النظر عن منطلقاتها السياسية، إرتضت بتلك القواعد العامة التي عبّرت عنها منظمات أممية، بعضها يتبع مباشرة الأمم المتحدة وبعضها الآخر ينسق معها. وكانت تلك الدول تنظر إلى منظومة القانون الدولي كضمانة أولية في زمن السلم وزمن الحرب على حد سواء.
إن الدول المنتصرة في الحرب هي التي أنشأت بعض المنظمات الدولية كأداة لحماية مصالحها. وكانت تحرص على الترويج لها عالمياً، وتستخدمها في حال تطلبت ممارساتها تغطية قانونية. وحتى عندما تُقدم “دولة كبرى” على خرق كل التشريعات والأعراف الإنسانية، وتتجاهل إي قرار يصدر عن الأمم المتحدة، فهي تسعى إلى إيجاد المبررات وخلق الذرائع وتطويع القوانين لكي تثبت أنها “ملتزمة” بالشرعة العالمية. لقد اتخذت الولايات المتحدة وبريطانيا قرار غزو العراق سنة 2003، وأعدتا الخطط، وذهبتا إلى مجلس الأمن للحصول على موافقته. ولما فشلتا… قامتا بالغزو على أي حال. وكان الحلف الأطلسي أكثر حظاً، إذ حصل سنة 2011 على قرار من مجلس الأمن لـ”حماية المدنيين” في ليبيا، فكان أن أسقطوا النظام ودمروا البلد!
“معركة غزة” أعادت تظهير الصور الحقيقية لشخصية الغرب الأوروبي ـ الأميركي. بهتت كل الألوان الفاقعة والجذابة، ولم يبقَ إلا الأبيض والأسود.
توجد في التاريخ الإنساني مرحلة يُطلق عليها اسم “العصور المظلمة”، حين سادت شريعة الغاب، وأخضعت الشعوب الضعيفة الى مفهوم “الغلبة”. من يملك القوة يتحكم بمصائر الآخرين، لا قانون ولا شرائع ولا مواثيق ولا مبادئ ولا أعراف… ولا حق إلا بحد السيف!
إندلعت معركة غزة، فأجمع الغربيون (في أوروبا وأميركا) على استرجاع عقيدة “العصور المظلمة”: الغلبة للقوة، والبقاء للأقوى.
أما الشرائع الإنسانية التي روّجوا لها عقوداً من الزمن، فإلى عالم النسيان. إنها مجرد صفحات باهتة في كتاب نسيه التاريخ تماماً!