دور الرواية التوراتية العنصرية في الحرب على الفلسطينيين

مقدمة:
تُدير روايات كتاب التوراة نهج حكومة الاحتلال الصهيوني، التي استحضرت مؤخراً عدداً من تلك الروايات لتشجيع جنودها على ارتكاب مجازر ضد الفلسطينيين، وتبرير الحرب الإجرامية التي يشنها جيش الاحتلال على مدينة غزة، ففي خطابٍ له بتاريخ الثالث من تشرين الثاني 2023، استلّ “بنيامين نتنياهو” رئيس حكومة الاحتلال إحدى روايات التوراة، قائلًا لجمهوره: “يجبُ أن تتذكّروا ما فعله العماليق بكم، كما يقول لنا كتابنا المقدس، ونحن نتذكّر ذلك بالفعل ونقاتل بجنودنا الشجعان وفرقنا الذين يقاتلون الآن في غزّة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل…إنّهم ينضمّون إلى سلسلة من الأبطال اليهود، التي بدأت قبل 3000 عام مع يشوع…”…
وردّاً على الخطاب السابق نبيّن ما يلي:
حقيقة “العماليق” في ضوء الروايات:
ورد ذكر العماليق في بعض أسفار كتاب التوراة كشعبٍ معادٍ لبني “إسرائيل”، ينتمي إلى الكنعانيين، وذلك دون وجود أدلة أثرية على الأرض، فيما تُظهر تلك الروايات النظرة التوراتية لسكان أرض كنعان الأصليين، وهي نظرة عنصرية عدوانية توضحها شواهد تلك الروايات، وسببها الرئيسي هو ظروف حياة البداوة والتشتت والانقسام لبني “إسرائيل”، والظاهرة في كتاب التوراة فقط، والذي يؤكد عدم تمكُّنهم من أن يكونوا جزءاً من الواقع الحضاري الكنعاني، أو حتى تقليده بسبب الفشل الحضاري الذريع المشار إليه في مئات الشواهد التوراتية.
شواهد ذكر “العماليق” في التوراة:
“وَكَانَتْ تِمْنَاعُ سُرِّيَّةً لأَلِيفَازَ بْنِ عِيسُو، فَوَلَدَتْ لأَلِيفَازَ عَمَالِيقَ…(1)
“وَأَتَى عَمَالِيقُ وَحَارَبَ إِسْرَائِيلَ فِي رَفِيدِيمَ” (بمنطقة أدوم وتقع أراضيها اليوم في الأردن وفلسطين المحتلة) (2)
“فَقَالَ مُوسَى لِيَشُوعَ: «انْتَخِبْ لَنَا رِجَالًا وَاخْرُجْ حَارِبْ عَمَالِيقَ. وَغَدًا أَقِفُ أَنَا عَلَى رَأْسِ التَّلَّةِ وَعَصَا اللهِ فِي يَدِي» (3).
“فَفَعَلَ يَشُوعُ كَمَا قَالَ لَهُ مُوسَى لِيُحَارِبَ عَمَالِيقَ. وَأَمَّا مُوسَى وَهَارُونُ وَحُورُ فَصَعِدُوا عَلَى رَأْسِ التَّلَّةِ.” (4)
“فَقَالَ يهوه لِمُوسَى: «اكْتُبْ هذَا تَذْكَارًا فِي الْكِتَابِ، وَضَعْهُ فِي مَسَامِعِ يَشُوعَ. فَإِنِّي سَوْفَ أَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ» (5).
“وَقَالَ: «إِنَّ الْيَدَ عَلَى كُرْسِيِّ يهوه. ليهوه حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ» (6).
“ثُمَّ رَأَى عَمَالِيقَ فَنَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَالَ: «عَمَالِيقُ أَوَّلُ الشُّعُوبِ، وَأَمَّا آخِرَتُهُ فَإِلَى الْهَلاَكِ»(7).
«اُذْكُرْ مَا فَعَلَهُ بِكَ عَمَالِيقُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِكَ مِنْ مِصْر”َ. (8)
“فَمَتَى أَرَاحَكَ يهوه إِلهُكَ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِكَ حَوْلَكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ يهوه إِلهُكَ نَصِيبًا لِكَيْ تَمْتَلِكَهَا، تَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. لاَ تَنْسَ. (9)
“فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا» (10).
كما نلاحظ، فعماليق من خلال الشواهد السابقة –التكوين تحديداً- هو حفيد “عيسو” بن إسحاق، استناداً إلى سلسلة الانساب التوراتية –غير المؤكدة تاريخياً-، لكن المصادر التاريخية العربية تنسب العماليق –أو شعب الجبارين- إلى ذرية عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، وأن اسمهم أطلقه العرب على الكنعانيين والعموريين … لذا يُلاحَظ من الشواهد السابقة الحقد التوراتي على العماليق، المحسوبين على الكنعانيين، أصحاب الأرض، فقد وقفوا –حسب الرواية التوراتية غير المُثبتة- في وجه بني “إسرائيل” لدى خروجهم المزعوم من مصر وغزوهم غير المثبت أثرياً لأرض كنعان، وقد سجلت تلك الرواية أخبار مهاجمة بني “إسرائيل” لهم والاعتداء على ممتلكاتهم في الزمن المزعوم لـ”يشوع” خليفة موسى.
مزاعم غزو “يشوع” لأرض كنعان:
وتعليقاً على هذا الموضوع لا بد من الأخذ بعين الاعتبار مسألة غياب التأريخ الحقيقي والصحيح والأدلّة القاطعة من فرضيات التوراتيين، فالروايتان المزعومتان لخروج بني “إسرائيل” من مصر، وغزوهم أرض كنعان بقيادة “يشوع”، هما روايتان تنفيهما آلاف المعطيات التاريخية والأثرية والكتابية الخاصة بتاريخ مصر وفلسطين القديم، ويرجع حديث الباحثين والسياسيين الصهاينة والتوراتيين عن هذا الغزو المزعوم إلى “الالتزام الإيديولوجي الديني المسبق لدى المؤرخين والآثاريين التوراتيين للربط بين عصر الحديد وما يسمى بـ”إسرائيل” (11)..أما عصر الحديد (بدءاً من عام 1200 ق.م) فهو عصر “فلستي” كنعاني، ولا وجود أو دور لما سمي بـ”إسرائيليين قدماء” فيه، فالدور الحقيقي في فلسطين -بدءاً من عصر الحديد- يعود إلى الفلستيين الكنعانيين الذين رفعوا مستوى الحضارة الكنعانية من “البرونز” إلى “الحديد”، وتمكّنوا من إنهاء حالة التسلُّط المصري على الشام وفلسطين، مما أدّى إلى نهوض المدن الكنعانية وانطلاقها مجدداً نحو بلدان البحر الأبيض المتوسط وتأسيس المدن فيها (12).
استحضار رواية العماليق فصل من فصول استهداف الكنعانيين:
وتعود هذه الفصول أدراجها إلى حقب قديمة حين شرع أحبار اليهود بكتابة أسفار التوراة والتلمود، بالإضافة إلى بعض مؤلفات المؤرخين الكلاسيكيين، ممن خدموا –خاصةً- في بلاط بعض الأباطرة الرومان، وصولاً إلى العصر الحديث حيث اكتسى استهداف الكنعانيين ثوب الصهيونية الدينية والسياسية، التي ترى في محو المنجز الحضاري الكنعاني ومفرداته إنجازاً يختلق للكيان اليهودي تاريخاً يتناسب وخرافة التوراة الخاصة بما سمي بـ”الوعد الإلهي” (اليهواوي)، ذلك الوعد الذي يرسم تطلعات الكيان اليهودي في المنطقة وخططه، والتي أفرز لها هذا الكيان مجموعة من السياسات والإجراءات والمجنّدين على الأرض، يعملون تحت عنوان ضخم وخطير هو التهويد.
وبالإضافة إلى ما سبق، فاستحضار رواية التوراة الخاصة بالعماليق يأتي في إطار التحريض الديني وحشد التيار الصهيوني العالمي خلف خطط كيان الاحتلال في التوسع باحتلال الأراضي العربية وتنفيذ مشاريع التهويد الكبرى، وذلك عبر جرائم الإبادة والتهجير.
أسباب أخرى غير معلنة لحقد الصهاينة على أصحاب الأرض:
تُظهر دراسة كتاب التوراة بتمعن، أسباباً أخرى لحقد الصهاينة وعدوانيتهم المفرطة ضد أصحاب الأرض الفلسطينيين، ونلمس ذلك من خلال روايات التوراة الخاصة بمدينة غزة وكبريات المدن الكنعانية كصور وصيدا، والتي تتطرق إلى مسألة تجارة الرقيق، التي كان بنو “إسرائيل” سلعتها الرئيسية-حسب التوراة- (13) ويجدر بالذكر أن المعلومات الخاصة ببيع بني “إسرائيل” كرقيق من قبل كبريات المدن الكنعانية -واستناداً إلى كتاب التوراة نفسه- هي معلومات من الصعب العثور على شرحٍ أو توضيحٍ لها في دراسات الباحثين الصهاينة والتوراتيين الذين يتعاملون مع هذا النوع من المعلومات وكأنه غير موجود، وينطوي ذلك على التحريف ومغالطة القارئ والتغطية على شواهد في كتاب التوراة والقراءة الانتقائية والاجتزائية لهذه الشواهد، من أجل تصوير “إسرائيل” كواقع حضاري ملموس في المنطقة، تنفيه معطيات التوراة بكل وضوح.
وبالتالي فبيع ما سمي ببني “إسرائيل” كرقيق، إنما يعطي صورة عن الوضع السياسي والاجتماعي لتلك الفئة التي لم تندمج -حسب التوراة- مع المجتمع الكنعاني ولم تشأ الانصهار فيه، وذلك لأسباب ثلاثة أساسية هي الفشل الحضاري والتقوقع الديني والتشبّث بخرافات العرق وإيديولوجيا إبادة الشعوب.
خاتمة
الكيان اليهودي التاريخي في فلسطين خيال توراتي بحت، لا أدلّة له على الأرض، في الوقت الذي سجلت فيه آثار فلسطين حضورها في المشرق وتركته الحضارية، أما مسيرة التاريخ الكنعاني –كجزء من التاريخ السوري القديم- فتتعرّض للاستهداف الممنهج ضمن مساعٍ لإزاحة الحقائق الكنعانية عن بساط البحث التاريخي بما يغطّي على اعترافات كُتّاب التوراة –سواء الصريحة منها، أو تلك التي بين السطور-والتي تؤكد–إلى جانب غياب الشواهد الأثرية والكتابية- على أنه لا توجد حضارة أو دولة قديمة تحمل اسم “إسرائيل”، وذلك بكل ما تحمله “الحضارة” و”الدولة” من معانٍ تطابقت فعلياً مع حضارة المشرق القديم وامتلاكها للأصول والجذور اللغوية والمنجزات على الأرض والتركة الانسانية المتميزة، الأمر الذي لم يتحقق تاريخياً لمن يدّعون زوراً وبهتاناً ملكية أجزاء من تلك الأرض، والذين تتلخص إجراءاتهم منذ عقود في السطو على الأصول الحضارية السورية ومحو جذورها، بغلاف ايديولوجي متعصب وتحريض ديني غير مسبوق خلال عصور التاريخ.
الحواشي
1- تكوين 36: 12
2- خروج 17: 8
3- خروج 17: 9
4-خروج 17: 10
5-خروج 17: 14
6- خروج 17: 16
7- عدد 24: 20
8- تثنية 25: 17
9- تثنية 25: 19
10- صموئيل الأول 15: 3
11- تومسون توماس: “التاريخ القديم للشعب الاسرائيلي”، ترجمة صالح سوداح، بيروت 1995، ص 187-188…وأصل الكتاب هو:
-Thompson.Thomas: The Early History of the Israelite People from the Written and Archaeological Sources, Leiden 1992. -Thompson.Thomas: The Bible in History, How Writers Creat a Past? London1999, p.164
12- أنظر دراستنا حول هذا الموضوع: “الفلستيون الكنعانيون ومدنهم في فلسطين” (جزءان)، مجلة زهرة المدائن، أنظر أيضاً:
فنطر محمد: “الفينيقيون بُناة المتوسط”، ط1، تونس 1998، ص39-41
-Moscati.Sabtino(ed):”Who were the Phoenicians”, p.24, Partoloni Piero: “Commerce and Industry,p.78, in Moscati.S: The Phoenicians, Milan, Bompiani, 1987 Pernigotti. Sergio: “Phoenicians and Egyptians”, p.524, in Moscati, op.cit
13- إرميا25: 20، 47: 1، 5، زكريا9: 5، عاموس1: 6