الجنوب وعبقرية الدم 

منذ الثامن من أوكتوبر 2023 ثاني أيام طوفان الأقصى والعبور القسامي الإعجازي من فلسطين إلى فلسطين، وجبهة الإسناد في جنوب لبنان يشتد أوارها يوما بعد يوم حتى تحولت إلى ساحة حرب حقيقية وسجال بالنار تتأرجح معه قواعد الاشتباك زئبقيًّا اتساقا مع طبيعة الأهداف والمديات ونوعية الأسلحة والعدوان والرد المضاد.

ومذاك ابتكرت المقاومة نسقا ردعيًّا مع العدو الصهيوني يمكن وصفه ((باستراتيجية العصا)) حيث لكل مقام أو سقف عدواني عصا من الغليظ إلى الأغلظ وشاهدنا كيف تصاعد الخط البياني للأسلحة الردعية من الكونكورس والكورنيت، الكورنيت المطوَّر، المسيرات الانقضاضية، بركان، فلق، وشفق والآتي أغلظ.. أما الهدف المبتغى من هذا الفعل الجهادي المتقن إشعار العدو بأن قبضة المقاومة ثقيلة موجعة رادعة تستنفر جيشا مرهقا مرعوبا ملاحقا في المواقع القديمة والمستحدثة أو مقتولا على أبراج الميركافا. والاستدلال على نجاعة الخطوات الميدانية لحزب الله يتأتى من الضجيج والعجيج الفارغ لقادة العدو والتهديدات الخلبية (لغالانت ومالانت…) التي استحالت مادة للتندر والاستهزاء والسخرية من رؤساء بلديات المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة.

لقد أسقطت المقاومة الإسلامية أسطورة إسرائيل المهاجمة القادرة على الحسم السريع بحرب صاعقة وحولتها مرغمة إلى الدفاع الجبان والمتخاذل حتى باتت بنادق قوة الرضوان تسترق السمع تحت نوافذ المستوطنات وعند الحافة الأمامية على أعتاب المواقع. وهذا ما تكرس عمليا عقب حرب تموز 2006 متصلا بيوم العرب الأغر عام 2000 ويوم ((العار الإسرائيلي)) كما أعلنت وقتذاك وسائل الإعلام الصهيونية بعد الهروب الكبير من ((فيتنام)) اللبنانية.

إن الحرب التي يخوضها مقاتلو حزب الله في جنوب لبنان تعجز أرقى وأعظم الأكاديميات العسكرية في العالم عن تقدير أبعادها وسبر أغوارها و الإحاطة بمهارات وأسرار وتكتيكات رجال الله والروح المعنوية الطافحة بالإيمان والثقة بالذات والرسوخ الأسطوري في الميدان على بقعة جغرافية لصيقة بالجبهة وفيها حسب المدارس العسكرية كل مقتضيات القتال والمناورة الدفاعية.

 أما أن يخوض مقاتلو حزب الله الرماة الأباة حربا هجومية هي في الأساس اختصاص الجيش الكلاسيكي مكشوفي الغطاء وفوق رؤوسهم أسراب الدرون والحربي وعشرات الأقمار الصناعية وأهم ما وصلت إليه التكنولوجيا العسكرية للغرب الجماعي وحلف شمالي الأطلسي في مجال الرصد والتجسس بحيث ينصتون لكل دابة على الأرض في مسرح العمليات بين لبنان وسوريا والعراق وضمنا فلسطين المحتلة.

إن هكذا مواجهة أولا بآلياتها المادية ومخاطرها والتفاوت الهائل بالقدرات العسكرية إلى حد القول إن الحرب الدائرة ليست مع إسرائيل وحسب إنما مع رعاتها بكامل عدتهم التكنولوجية والعسكرية والدبلوماسية وهذا ما يدفع لوصف الحالة على أنها معجزة خارقة وعبقرية دم مهراق يصوغها حفنة من شباب القرى الأمامية في الجنوب، أهل الأرض المنغرسون في ذراها كالزيتون العتيق وزعتر الحقول.

إزاء هذا التوازن الردعي مع أعتى قوة عسكرية مدججة بأحدث الأسلحة الأميركية والغربية والذي أوجعته ضربات المقاومين في حصونه المحصنة في ميرون وصفد لجأ العدو إلى عادته القذرة باستهداف المدنيين عندما يعجز في سوح القتال والمواجهة فارتكب مجزرتي الصوانة والنبطية.

وجاء كلام سماحة السيد حسن نصرالله عن معادلة الدم بالدم لتخرس السنة قادة العدو وتزيد من هلع المستوطنين في مدن الشمال الذين ينتظرهم ما توفر من وجبات صاروخية وبدأت وسائل الإعلام الصهيونية تتحدث عن نزوح مرتقب للمستوطنين فيما تبقى منهم في المدن والمستوطنات.

والحال إن إسرائيل تطمح لخوض حرب مع حزب الله لكنها تخشى فصولها الراعبة وما قد يخبئه حزب الله من مفاجآت و تسديدات قاصمة فيما على الضفة الأخرى من الصراع حزب الله ليس راغبا بالحرب الآن لكنه لا يخشاها وإذا وقعت سيخوضها باقتدار المؤمن بالفوز وإلحاق الهزيمة بالعدو مهما كانت التضحيات. 

ونظرية دخول فلسطين من دون قتال التي تحدث عنها سيد المقاومة بعد استنزاف مكثف لألوية العدو ومراكمة النقاط يبقى السيناريو الأقرب للتحقق بعد نزوح جماعي لقطعان اليهود من فلسطين على وقع لعنة اللاأمان المتجذر في الأرض ((الموعودة))، وعلى وعد الميدان ننتظر الخبر اليقين…