الدوافع الاقتصادية لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها اسرائيل على غزة

منذ أكثر من ثلاثة شهور يقوم جيش الاحتلال الإسرائيلي بمهاجمة التجمعات المدنية الفلسطينية في كل من غزة والضفة الغربية مرارا وتكرارا. وفي الواقع، حذرت الأمم المتحدة المجتمع الدولي من “إبادة جماعية” في طور الإعداد[1]. من المرجح أن يكون عدد القتلى الفلسطينيين قد وصل إلى نحو من 25,000 مع حوالي 60,000 جريح، تشكل النساء والأطفال 70% منهم، ويخشى أن يكون آلاف آخرون قد فقدوا تحت الأنقاض أو بعيدا عن متناول سيارات الإسعاف. وحتى الآن، تم تدمير أكثر من 70٪ من البنية التحتية للإسكان، وكذلك عشرات المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والمواقع الثقافية والشركات ومكاتب الأمم المتحدة. إن إراقة الدماء والدمار الذي يرتكبه الجيش الإسرائيلي يتصاعد مع قيام الولايات المتحدة بمنع حتى تصويت مجلس الأمن على وقف إطلاق النار، وترفض إسرائيل الاستجابة لدعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة لوقف إطلاق النار حيث صوتت 153 دولة لصالح القرار وصوتت 10 دول فقط ضده في 11 ديسمبر 2023.
على الرغم من أن دولة الإحتلال ومؤيديها قد صوروا الجريمة على أنها حرب ضد حركة حماس، إلا أن العديد من المراقبين والمطلعين في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه لا يقبلون هذا التوصيف. وهم يعتقدون أن مصالح أخرى تقف وراء العنف. وأن هناك بعض العوامل والأهداف الأخرى التي تلعب دورا هنا بما في ذلك النفط والغاز، وخاصة تلك الموجودة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وقناة بن غوريون، والطريق التجاري الجديد الذي يربط الهند بأوروبا عبر دولة الإحتلال والذي تأمل الولايات المتحدة أن يكون بديلا لطريق الحرير الصيني. ويبدو أن هذه المشاريع الاقتصادية الضخمة الحاسمة هي أيضا أسباب أساسية محتملة وراء هذه المذبحة. وهي ليست بأي حال من الأحوال الأهداف الوحيدة للإسرائيليين، ولكنها تشكل أسباباً حقيقية تفسر استهداف إفراغ غزة وتدميرها بالكامل.
وقد وثّق جون ميرشايمر في 12 ديسمبر 2023 أن الهدف من الغزو الإسرائيلي لغزة هو جعلها غير صالحة للسكن. وأشار إلى أن صحيفة نيويورك تايمز لديها تقارير تفيد بأن “الدعوة إلى تسويتها بالأرض” أو “محوها” أو “تدميرها” يشكل جزءا من الخطاب الإسرائيلي العادي[2]. حتى أنه نقل عن جنرال متقاعد في الجيش الإسرائيلي قوله إن “غزة ستصبح مكانا لا يمكن أن يوجد فيه إنسان”[3]، وذهب وزير في الحكومة الإسرائيلية إلى أبعد من ذلك، حيث اقترح إسقاط سلاح نووي على غزة[4]. هذه التصريحات لم تصدر عن متطرفين معزولين، بل صدرت عن كبار أعضاء الحكومة الإسرائيلية.
ويتساءل المرء كيف يمكن لقتل الأطفال والنساء أن يزيد من أمن إسرائيل ويحمي الإسرائيليين من حوادث العنف في المستقبل؟ ولماذا يؤدي تجويع سكان غزة ونقل أعداد كبيرة من السكان من مكان إلى آخر إلى بناء مستقبل سلمي أفضل للإسرائيليين؟ ولماذا سعت إسرائيل إلى دفع سكان غزة إلى سيناء؟ لقد أصبح من الواضح بشكل متزايد أن دفع سكان غزة إلى سيناء وأماكن أخرى وجعل غزة غير صالحة للعيش هما هدفان إسرائيليان رئيسيان. لكن السؤال الحقيقي هو لماذا تحاول إسرائيل طرد 2.2 مليون غزي بعيدا عن وطنهم غزة؟ وكيف سيجلب ذلك السلام والأمن لإسرائيل؟ إذا لم يكن هذا هو الهدف الحقيقي من هذا الإجراء، فما هي الأهداف الحقيقية لحملة التطهير العرقي الإسرائيلية في غزة؟
أثار النقاد تساؤلات حول الأهداف الحقيقية للحملة منذ بدايتها، واعتبروا أن حجم الدمار وقتْل المدنيين لا ينسجمان مع الأهداف المعلنة؛ وأن هناك قلقاً مزعجاً من وجود أهداف أخرى غير معلنة وخطط مستقبلية لغزة[5]. من المؤكد أن تأسيس إسرائيل كدولة يهودية نقية خالية من أي مجموعة أخرى كان دائما هدفا حاسما للصهاينة. لكن هذا لا يعني أنه لا توجد أهداف أخرى لهذه الحملة العنيفة.
في ما يلي يتم الإشارة إلى بعض الأهداف والتفسيرات المحتملة كقوى دافعة رديفة يمكن أن تفسر بشكل أفضل ماذا يحدث في غزة ولماذا. هناك عدد من المشاريع الاقتصادية الجادة على لوحة الرسم وبعض العوائد الاقتصادية المربحة الجديدة الفعلية التي يتم جنيها حاليا من الاكتشافات الجديدة للنفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط وطرق التجارة الجديدة المتوخاة التي من المحتمل أن تفسر الإبادة الجماعية والهدف الحقيقي لطرد سكان غزة من حيث هم الآن.
إن هذه الأهداف الإضافية لا تستبعد بالضرورة الأهداف العسكرية والسياسية المعلنة الأخرى مثل تدمير حركة المقاومة الاسلامية (حماس)، والقضاء على قيادتها العسكرية والسياسية، والتطهير العرقي للفلسطينيين لإنشاء دولة يهودية خالصة والاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية. فالحجة هنا بسيطة ومباشرة، إذ أنه من المؤكد أن العوائد الاقتصادية ل “المشاريع العملاقة” التي تعتمد على إفراغ غزة والسيطرة عليها ذات مصداقية وربما تكون أكثر جوهرية من الأهداف المعلنة.
 
حوض بلاد الشام
إن من أهم التطورات الاقتصادية الجديدة الأخيرة في المنطقة هو الاكتشاف الكبير لأحواض كبيرة من الغاز والنفط في شرق البحر الأبيض المتوسط. لقد اكتسبت هذه الثروات سمعة عالية وقيمة كبيرة في الوقت الذي أصبحت إمدادات الغاز والنفط الروسية الى أوروبا أقل توفرا، خاصة بعد تفجير أنبوب الغاز نورد ستريم الثاني العام الماضي مع احتدام الحرب الأوكرانية الروسية.
 
الخريطة 1. موقع وحدات التقييم الثلاث في محافظة حوض بلاد الشام

المصدر: هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية https://pubs.usgs.gov/fs/2010/3014/pdf/FS10-3014.pdf. هذه الخريطة ليست خريطة رسمية للأمم المتحدة، فهي تظهر فقط لغرض التوضيح.
 

تضم منطقة حوض بلاد الشام حوالي 83,000 كيلومتر مربع من منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط (انظر الخريطة 1). يحد المنطقة من الشرق منطقة تحويل بلاد الشام تحدها قبرص، ومن الشمال صدع طرطوس في سوريا، ومن الشمال الغربي جبل إراتوستينس البحري، ومن الغرب والجنوب الغربي حدود محافظة مخروط دلتا النيل في مصر، ومن الجنوب حدود الهياكل الانضغاطية في سيناء.
قدرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) وجود حوالي 1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج وحوالي 122 تريليون قدم مكعب من الغاز القابل للاسترداد في أحواض منطقة بلاد الشام.[6] وهذا يجعل هذه الأحواض أحد أهم موارد الغاز في العالم، فالعديد من الخصائص المميزة للنفط والغاز تفصلها عن الموارد الطبيعية الأخرى:
أولا، إنها لا تطيع الحدود السياسية، وبالتالي يمكنها أن تمتد عبر العديد من الحدود الوطنية.
ثانيا، يستغرق تشكيلها عدة آلاف من السنين لتتراكم تحت الأرض بحيث لا يكون المالكون الحاليون بالضرورة المالكين الحقيقيين أو الوحيدين.
ثالثا، يمكن تخزين كل من هذه الموارد بدون تكلفة لعقود وقرون وحتى آلاف السنين. وعادة، يعتمد استغلالها الأمثل، جزئيا، على أسعار الفائدة الحالية والزيادة المتوقعة في الأسعار.
رابعا، قد تكون جزءا من المشاعات العالمية حيث تتطلب اعتبارات الكفاءة والإنصاف القيام بالتوحيد والإستغلال المشترك لهذه الثروات، وإلا سيؤدي ذلك الى حلقة مفرغة محصلتها صفر، حيث يكون أحد الأطراف قادرا على الاستفادة على حساب الأطراف الأخرى.
خامسا، النفط والغاز على حد سواء هما مَوردان غير متجددين، وأي استغلال لهما سيقلل مما هو متاح للآخرين أو للأجيال القادمة. وتضيف هذه الحقيقة قيودا راسية مشتركة بين الأجيال على قضايا الإنصاف الأفقية والعمودية داخل وبين الأجيال.
سادسا، تتفاقم الفجوة بين القيم المحتملة والمحققة لاستغلال النفط والغاز، التي تتجلى في معظم الولايات القضائية “العادية” و”المستقرة” في الأرض الفلسطينية المحتلة بسبب عدم وجود ترسيم واضح لحقوق الملكية.
سابعا، الغاز هارب ويمكن أن يتسرب من خزان إلى آخر مما يجعل من الصعب احتواءَه في مكان واحد واستغلاله من قبل طرف واحد.

إن الاكتشافات الجديدة للغاز في حوض بلاد الشام تصل قيمتها إلى 453 مليار دولار أمريكي، وتصل قيمة النفط القابل للاستخراج حوالي 71 مليار دولار أمريكي، مما يعني أن هذه الثروة توفر فرصة لتوزيع وتقاسم ما مجموعُه 524 مليار دولار أمريكي بين الأطراف المختلفة، بالإضافة إلى العديد من المزايا غير الملموسة ولكن الجوهرية كأمن الطاقة وإمكاناتها. إن التعاون بين المتحاربين، كما هو عليه الحال الآن، يشكل مصدرا للصراع المحتمل إذا استغل أحد الأطراف هذه الموارد دون إيلاء الاعتبار الواجب للنصيب العادل للآخرين.
فمع تصاعد أسعار الطاقة الناجم عن الحرب الأوكرانية الروسية، زادت قيم هذه الثروات في حوض بلاد الشام بشكل ملموس، حيث تشير التقديرات الآن إلى أن قيمة هذه الثروات قد ترتفع الى أكثر من 2 تريليونَيْ دولار. المشكلة الحقيقية أن إسرائيل وحدها تستغل هذه الثروات في هذا الوقت.
إن تجربة الولايات المتحدة في التعامل مع حقول النفط المشتركة في تكساس وأوكلاهوما ذات صلة هنا، إذ تم توحيد هذه الحقول من أجل زيادة الأرباح الجماعية التي يمكن أن يقلصها أي استغلال مستقل وفردي. ينبع تفوق التوحيد كأثر ل “نظرية Coase” التي تشير إلى أن الأرباح الجماعية والكفاءة الأعلى تستلزم فصل استخدام مورد مشترك عن حقوق الملكية[7]. يمكن توحيد هذه الحقول ويمكن القيام بتطويرها نيابة عن جميع الأطراف التي سيتم التحقق من حقوق الملكية الخاصة بها قبل الاستغلال. والمبدأ الاقتصادي للكفاءة يملي هذا التوحيد، ولكن لا يمكن ضمان ذلك ما لم تتفق الأطراف على صيغة تقاسم عادلة وتكون تكاليف معاملاتها ورصدها محدودة ومنخفضة. للفلسطينيين مصلحة كبيرة ليس فقط في الحقول الواقعة تحت أرضهم ولكن في جميع الاحتياطيات المشتركة في هذا الحوض لا لسبب سوى حقيقة أن هذه الموارد مشتركة ولا تطيع الحدود السياسية[8].
أكد الجيولوجيون والاقتصاديون في مجال الموارد الطبيعية أن الأرض الفلسطينية المحتلة تقع فوق خزانات كبيرة من ثروة النفط والغاز الطبيعي، في المنطقة (ج) من الضفة الغربية المحتلة وساحل البحر الأبيض المتوسط قبالة قطاع غزة. ومع ذلك، لا يزال الاحتلال يمنع الفلسطينيين من تطوير حقول الطاقة الخاصة بهم لاستغلال هذه الأصول والاستفادة منها. وعلى هذا النحو، حرم الشعب الفلسطيني من فوائد استخدام هذا المورد الطبيعي لتمويل التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتلبية احتياجاته من الطاقة. وتقدر الخسائر المتراكمة بمليارات الدولارات. وكلما طالت مدة منع إسرائيل الفلسطينيين من استغلال احتياطياتهم من النفط والغاز الطبيعي، كلما زادت تكاليف الفرصة البديلة وزادت التكاليف الإجمالية للاحتلال الذي يتحمله الفلسطينيون.

حقول الغاز في غزة وحقل مجد النفطي في الضفة الغربية[9]
وقعت السلطة الوطنية الفلسطينية في تشرين الثاني/نوفمبر 1999 عقدا مدته خمسة وعشرون عاما للتنقيب عن الغاز مع شركة مجموعة الغاز البريطانية (BG). وقد أتى ذلك بعد أن اكتشفت هذه الشركة في وقت سابق من ذلك العام حقلَ غازٍ كبيراً، أطلقت عليه اسم غزة مارين، على مسافة 17 إلى 21 ميلا بحريا من ساحل غزة. وفي عام 2000، حفرت BG بئرين في الحقل وأجرت دراسات جدوى مع نتائج جيدة.
وقد منحت اتفاقات أوسلو، وتحديدا اتفاق غزة-أريحا لعام 1994، الذي أكده اتفاق “أوسلو الثاني” المؤقت لعام 1995 للسلطة الوطنية الفلسطينية ولاية بحرية على مياهها تصل إلى 20 ميلا بحريا (23 ميلا قانونيا) من الساحل. [10] وتسمح هذه الاتفاقية (أوسلو الثانية) بصيد الأسماك والأنشطة الترفيهية ويفترض أنها تبيح أنشطة اقتصادية أخرى مثل الحفر. لم تمر خطط تطوير حقول الغاز دون منازع. وقد قوبلت بمقاومة إسرائيلية في كل من الأوساط التجارية والسياسية في دولة الاحتلال. قدمت شركات في كونسورتيوم يام ثيتيس الإسرائيلي، الذي أنشئ للعمل في حقول الغاز الإسرائيلية المجاورة وحقق أول اكتشاف له في عام 1999، التماسا إلى الحكومة الإسرائيلية لمنع شركة BG من التنقيب قبالة غزة. والسبب المقدم هو أن السلطة الوطنية الفلسطينية ليست حكومة ذات سيادة، وبالتالي لا يمكنها الاستفادة من معاهدة قانون البحار[11].
ومع ذلك، في تموز/يوليو 2000، منح رئيس وزراء دولة الاحتلال آنذاك، إيهود باراك، ترخيصا أمنيا لشركة BG لحفر البئر الأولى، مارين-1، كجزء من اعتراف سياسي (ولكن غير ملزم قانونا) من قبل إسرائيل بأن البئر كانت تحت ولاية السلطة الوطنية الفلسطينية[12]. كما بدأت BG حفر البئر الثاني، Marine-2 ، في نوفمبر 2000 ، من أجل تقييم كمية الغاز وجودته.
وفي 27 أيلول/سبتمبر 2000، عشية الانتفاضة الثانية، أضاء رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، ياسر عرفات، برفقة رجال أعمال فلسطينيين ولبنانيين من شركة اتحاد المقاولين الدولية ووسائل الإعلام، الشعلة التي تثبت وجود الغاز في منصة التنقيب البحرية التابعة لشركة بريتيش بتروليوم[13]. وفي خطاب أعيد تداوله، أعلن عرفات أن الغاز كان “هبة من الله لنا ولشعبنا ولأطفالنا. وهذا سيوفر أساسا متينا لاقتصادنا، لإقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف”[14]، وأكد رئيس شركة غاز البحرين أن الغاز كان ذا نوعية جيدة وكمية كافية لتلبية الطلب الفلسطيني وتوفير الصادرات. قدرت الاحتياطيات ب 1 تريليون قدم مكعب (tcf)[15]، لكن يبدو أن موافقة باراك على حفر البئر الثانية، وتجارب الغاز الناجحة في كلتيهما، يبشران بمكاسب محتملة للشعب الفلسطيني، مما يعزز قدرة اقتصاده على البقاء وكذلك سعيه لتحقيق العدالة والسيادة.
هذا وقد قسم العقد الموقع في عام 1999 الملكية بين الأطراف المعنية؛ بإعطاءBG 90% من أسهم الترخيص والسلطة الوطنية الفلسطينية 10% حتى يبدأ إنتاج الغاز. وفي وقت لاحق، كان من المقرر أن ترتفع حصة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى 40%، منها 30% كانت ستحتفظ بها شركة اتحاد المقاولين التي تطور المشروع. وافقت السلطة الوطنية الفلسطينية على خطة تطوير المقترحة التي تضمنت بناء خط أنابيب يربط حقول غزة بعسقلان بتكلفة تقدر ب 150 مليون دولار، في يوليو 2000 [16].
وشملت اتفاقية PNA-BG-CCC تطوير الحقول وبناء خط أنابيب للغاز[17]. وقد تضمنت الاتفاقية أن تشمل رخصة BG كامل المنطقة البحرية في غزة، وهي المنطقة المتاخمة لعدة منشآت غاز بحرية لدولة الاحتلال (انظر الخرائط 1 و2 و3). وتجدر الإشارة إلى أن 60% من احتياطيات الغاز على طول الساحل بين غزة ودولة الاحتلال هي قانونيا من حصة فلسطين[18].
انطلقت المفاوضات بين BG والسلطة الوطنية الفلسطينية في صيف عام 2000 في إطار سردية أوسلو للتعاون الاقتصادي. كانت إسرائيل بحاجة إلى الغاز، ويمكن للسلطة الوطنية الفلسطينية أن تقدمه، لذلك كان ينظر إلى الصفقة على أنها تشكل توافقا جيدا بين حاجة الطاقة الإسرائيلية والإمدادات الفلسطينية.
أشارت صحيفة نيويورك تايمز في سبتمبر 2000 إلى أن “الفلسطينيين والإسرائيليين سيستفيدون إذا تمكنوا من العمل معا في شراكة عالية المخاطر. إنهم بحاجة إلى بعضهم بعضاً من أجل التطوير الفعال لهذه الاحتياطيات البحرية”[19]. هنا لم يُذكَر أن الفائض من استغلال الثروة ضروري ولكنه ليس كافيا للتعاون. والأهم من ذلك بكثير هو شروط التعاون وحصص كل من الأطراف في توزيع الريع من الثروات المحققة.
وهكذا في حزيران/يونيو 2000، اقترحت شركة الغاز البريطانية توريد الغاز من مصر وغزة وإسرائيل (الحقول قبالة عسقلان) إلى شركة الكهرباء الإسرائيلية المملوكة لدولة الاحتلال. وفي الوقت نفسه، اقترحت مجموعتان اسرائيليتان أخريان أيضا عقود توريد طويلة الأجل إلى إسرائيل. ومن بين هذه الشركات شركة يام ثيتيس، وهي كونسورتيوم يضم ثلاث شركات إسرائيلية وشركة أمريكية واحدة (سمدان)، التي عارضت، كما ذكر أعلاه، منح إسرائيل حقوق التنقيب في المياه الفلسطينية. والمجموعة الاخرى كانت غاز شرق المتوسط (EMG)، وهي شراكة بين الشركة الإسرائيلية Merhav، وشركة النفط الوطنية المصرية، ورجل أعمال مصري، والتي تم تأسيسها لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل[20].
رفضت شركة الكهرباء الإسرائيلية شراء الغاز من غزة، معلنة أنه أغلى من الغاز المصري. وروت تقارير إعلامية إسرائيلية لاحقة قصة مختلفة تجادل بأن السبب الرئيسي للرفض كان سياسيا وكان بسبب استخدام رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب حديثا (اعتبارا من ربيع عام 2001) أرييل شارون حق النقض ضد أي شراء للغاز الفلسطيني[21]. مع ذلك، تم رفع حق النقض هذا جزئيا على الأقل في مايو/أيار 2002 بناء على طلب من رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، الذي اعتقد أن مثل هذه المشاريع يمكن أن تساعد في دفع عملية السلام التي توترت بشدة بسبب الانتفاضة[22].
وافق شارون على التفاوض على اتفاق لتوريد 0.05 تريليون قدم مكعب سنويا من الغاز الفلسطيني لمدة تتراوح بين عشر إلى خمس عشرة سنة[23]. لكن في صيف 2003 غيّر موقفه مرة أخرى ورفض السماح بتدفق الأموال إلى السلطة الوطنية الفلسطينية مدعيا أنها يمكن أن تستخدم لدعم “الإرهاب”. هذا التفسير الأخير هو أيضا موضع تساؤل بالنظر إلى أن إسرائيل كانت قد أعلنت بالفعل أن عائدات الغاز الفلسطينية سيتم تحويلها إلى حساب خاص، وهو الحساب نفسه الذي تم توحيده في عهد وزير مالية السلطة الوطنية الفلسطينية الذي كان يستخدم للمعونة الدولية وإيرادات المقاصة الضريبية التي تحولها دولة الاحتلال للسلطة الوطنية الفلسطينية.
ادّعى بعض المراقبين السياسيين أن الظروف كانت أكثر ملاءمة للمفاوضات بعد وفاة عرفات في نوفمبر 2004. واستندوا في ادعائهم إلى المناخ الجديد المفترض أنه نشأ عن مجموعة من التطورات التي شملت انتخاب محمود عباس رئيسا للسلطة الوطنية الفلسطينية في كانون الثاني/يناير 2005، ومجموعة الإصلاحات التي قامت بها السلطة الوطنية الفلسطينية بحيث اعتبرت مُرضية للمجتمع الدولي؛ وكذلك استبدال أرييل شارون بإيهود أولمرت كرئيس لوزراء دولة الاحتلال في يناير 2006.
وفي 29 نيسان/أبريل 2007، وافق مجلس وزراء دولة الاحتلال على اقتراح أولمرت بالموافقة على استئناف المناقشات مع الشركة البريطانية BG. وفي مايو، تم الكشف رسميا عن شروط العقد: ستشتري إسرائيل 0.05 تريليون قدم مكعب من الغاز الفلسطيني مقابل 4 مليارات دولار سنويا بدءا من عام 2009[24].
بموجب هذه الخطة، سيتم نقل الغاز عبر الأنابيب إلى عسقلان لتسييله في دولة الاحتلال، ومن ثم لتزويد السوق الإسرائيلية وتغطية احتياجات غزة المحدودة. وقيل إن هذا من شأنه أن يولد منافع متبادلة فضلا عن الاعتماد المتبادل الذي يُعتبر “تعزيزَ جوٍ جيد للسلام”[25].
لكن السياق السياسي تغير مرة أخرى؛ ففي 14 يونيو 2007، وفي ظل حكومة جديدة؛ انفصل قطاع غزة سياسيا وإداريا عن الضفة الغربية. وأعلنت الحكومة الجديدة في غزة أنها ستغير شروط العقد، لا سيما فيما يتعلق بالحصة الفلسطينية (10%). فقد أدركت الحكومة الجديدة في غزة بأنه “إذا تم تغيير العقد، فإن المنافع الاقتصادية على المجتمع الفلسطيني ستكون ملموسة… سيعتمد الفلسطينيون على مواردهم بدلا من المساعدات الدولية”[26]. ومع ذلك، استمرت المفاوضات بين دولة الاحتلال والسلطة الوطنية الفلسطينية التي تسيطر على الضفة الغربية، لبعض الوقت، متجاوزة السلطة الحاكمة في غزة.
في سبتمبر 2007، نصح رئيس الأركان الإسرائيلي آنذاك حكومة دولة الاحتلال بعدم إبرام اتفاق مع BG: “من الواضح أن إسرائيل بحاجة إلى مصادر غاز إضافية، بينما يحتاج الشعب الفلسطيني بشدة إلى مصادر جديدة للدخل. ومع ذلك، مع وجود غزة حاليا معقلا إسلاميا متطرفا، والضفة الغربية في خطر أن تصبح المعقل التالي، فإن قيام إسرائيل بتحويل مليار دولار إلى حسابات مصرفية محلية أو دولية نيابة عن السلطة الفلسطينية سيكون بمثابة تمويل إسرائيل للإرهاب ضد نفسها”[27].
كان للعملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة في كانون الأول/ديسمبر 2008 عدة آثار سلبية أدت الى السيطرة الكاملة لدولة الاحتلال على احتياطيات الغاز البحرية الاستراتيجية وملكيتها. وفي أعقاب العملية، وضعت حقول الغاز الفلسطينية فعليا تحت السيطرة الإسرائيلية دون أي اعتبار للقانون الدولي. إن مسألة السيادة على حقول الغاز في غزة مسألة حاسمة. من وجهة نظر قانونية، إذ أن احتياطيات الغاز تنتمي إلى فلسطين، وان سيطرة اسرائيل عليها هي مخالفة صريحة للقانون الدولي ولميثاق جنيف الرابع.
في أعقاب وفاة ياسر عرفات، وفصل غزة عن الضفة الغربية، والعمليات العسكرية الإسرائيلية الثلاث في غزة، فرضت دولة الاحتلال سيطرتها الفعلية على احتياطيات الغاز البحرية في غزة، حيث بدأت شركة BG بالتعامل مع حكومة تل أبيب بدلا من تعاملها مع حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية[28]. وفي المقابل، تم تجاوز سلطة الأمر الواقع في غزة فيما يتعلق بحقوق التنقيب والتطوير في حقول الغاز.
كما ذكر أعلاه، في مايو 2007، وافق مجلس وزراء دولة الاحتلال على اقتراح من رئيس الوزراء إيهود أولمرت “لشراء الغاز من السلطة الفلسطينية” مقابل 4 مليارات دولار تشكل الأرباح منها حوالي 2 مليار دولار حيث تكون حصة الفلسطينيين منها حوالي مليار دولار. إلا إنه بالرغم من ذلك، كان لدى تل أبيب خطط مختلفة لتقاسم الإيرادات مع فلسطين؛ حيث شكل مجلس وزراء دولة الاحتلال فريقا إسرائيليا من المفاوضين للتوصل إلى اتفاق مع مجموعة BG، متجاوزا كُلاً من حكومة حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية: “تريد سلطات الدفاع الإسرائيلية أن يتم الدفع للفلسطينيين على شكل سلع وخدمات وتصر على عدم ذهاب أي أموال إلى الحكومة التي تسيطر عليها حماس”. وكان الأثر المترتب على هذه الاجراءات إبطال العقد الموقع في عام 1999 بين BG والسلطة الوطنية الفلسطينية[29].
والواقع أن الإجراءات الإسرائيلية منعت إمكانية دفع حصص للفلسطينيين من الغاز الموجود في المياه الاقليمية في غزة. وفي كانون الأول/ديسمبر 2007، انسحبت BG من المفاوضات مع إسرائيل، وفي كانون الثاني/يناير 2008 أغلقت مكتبها في دولة الاحتلال.
وكانت خطط الضربة العسكرية الإسرائيلية في غزة قد وضعت موضع التنفيذ قبل ستة أشهر أو أكثر من تنفيذها في ديسمبر/كانون الأول 2008. ووفقا لمصادر عسكرية إسرائيلية: “قالت مصادر في مؤسسة الدفاع إن وزير الدفاع إيهود باراك أصدر تعليمات للجيش الإسرائيلي بالتحضير للعملية قبل أكثر من ستة أشهر [يونيو أو قبل يونيو]، في الوقت الذي بدأت إسرائيل التفاوض على اتفاق لوقف إطلاق النار مع حماس[31].
وفي الشهر نفسه (حزيران/يونيو 2008)، اتصلت سلطات دولة الاحتلال بشركة الغاز البريطانية بهدف استئناف المفاوضات الحاسمة المتعلقة بشراء الغاز الطبيعي في غزة: “وافق كل من المدير العام لوزارة المالية ياروم أرياف والمدير العام لوزارة البنى التحتية الوطنية هيزي كوغلر على إبلاغ شركة الغاز البريطانية برغبة اسرائيل في استئناف المحادثات. وأضافت المصادر أن BG لم ترد رسميا بعد على طلب إسرائيل، ولكن من المحتمل أن يأتي المسؤولون التنفيذيون في الشركة إلى إسرائيل في غضون أسابيع قليلة لإجراء محادثات مع مسؤولين حكوميين”[32].
تزامن قرار تسريع المفاوضات مع BG، كما كتب ميشيل شوسودفسكي (2006)، مع التخطيط للضربة العسكرية على غزة التي بدأت في يونيو. ويبدو أن إسرائيل كانت حريصة على التوصل إلى اتفاق مع BG قبل الضربة، التي كانت بالفعل في مرحلة تخطيط متقدمة[33].
علاوة على ذلك، أجرت حكومة دولة الاحتلال، مع العلم أن غزْواً عسكريا كان على لوحة الرسم، هذه المفاوضات مع شركة الغاز البريطانية. ويبدو أن حكومة دولة الاحتلال كانت تفكر أيضا في ترتيب سياسي إقليمي جديد “ما بعد الحرب” لقطاع غزة. في الواقع، كانت المفاوضات بين شركة BG والمسؤولين الإسرائيليين جارية في أكتوبر 2008، قبل شهرين من بدء الضربة العسكرية في 27 ديسمبر 2008.
في نوفمبر 2008، أصدرت وزارة المالية في دولة الاحتلال ووزارة البنى التحتية الوطنية تعليمات إلى اللجنة الانتخابية المستقلة للدخول في مفاوضات مع شركة BG بشأن شراء الغاز الطبيعي من امتيازهم البحري في غزة[1]، حيث “كتب المدير العام لوزارة المالية ياروم أرياف والمدير العام لوزارة البنية التحتية الوطنية هيزي كوغلر إلى الرئيس التنفيذي لشركة الكهرباء الإسرائيلية عاموس لاسكر مؤخرا، لإبلاغه بقرار الحكومة السماح بالمضي قُدُما ًفي المفاوضات، بما يتماشى مع الاقتراح الإطاري الذي وافقت عليه في وقت سابق من هذا العام. وافق مجلس إدارة IEC، برئاسة الرئيس موتي فريدمان، على مبادئ الاقتراح الإطاري قبل بضعة أسابيع. ستبدأ المحادثات مع BG بمجرد موافقة مجلس الإدارة على الإعفاء من المناقصة “[2].
ظهر ترتيب إقليمي جديد بعد العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة في ديسمبر 2008، بما في ذلك عسكرةُ ساحل غزة بأكمله ومصادرة حقول الغاز الفلسطينية الخاضعة لسيطرة دولة الاحتلال على المناطق البحرية في غزة. وعلى هذا النحو، تم دمج حقول الغاز في غزة بحكم الأمر الواقع في المنشآت البحرية الإسرائيلية في انتهاك صارخ للقانون الدولي (انظر الخرائط 2 و 3)[3].
الخريطة 2. إسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية

المصدر: ميشيل شوسودوفسكي. الحرب والغاز الطبيعي: الاجتياح الإسرائيلي وحقول الغاز البحرية في غزة. البحوث العالمية، 10 أغسطس 2014. هذه الخريطة ليست خريطة رسمية للأمم المتحدة، فهي تظهر فقط لغرض التوضيح.
 
ترتبط هذه المنشآت البحرية المختلفة أيضا بممر نقل الطاقة الإسرائيلي الذي يمتد من ميناء إيلات، وهو محطة لخطوط أنابيب النفط، على البحر الأحمر إلى الميناء البحري – محطة خط الأنابيب في عسقلان، وشمالا إلى حيفا، ومن المحتمل أن ترتبط من خلال خط أنابيب إسرائيلي تركي مقترح مع ميناء جيهان التركي. جيهان هي محطة خط أنابيب باكو، تبليسي جيهان (BTC) عبر بحر قزوين. “ما هو متوخَّى هو ربط خط أنابيب BTC بخط أنابيب إيلات-عسقلان العابر لإسرائيل، المعروف أيضا باسم Tipline الإسرائيلي” [5] .
 
الخريطة 3. المنطقة المشمولة برخصة BG وحقول الغاز في مصر ولبنان
المصدر: ميشيل شوسودوفسكي. الحرب والغاز الطبيعي: الاجتياح الإسرائيلي وحقول الغاز البحرية في غزة. البحوث العالمية، 10 أغسطس 2014. هذه الخريطة ليست خريطة رسمية للأمم المتحدة، فهي تظهر فقط لغرض التوضيح.

لقد مر الآن ما يزيد عن خمسة وعشرين عاما (2023) على حفر Marine 1 و Marine 2، وبما أن السلطة الوطنية الفلسطينية لم تتمكن من استغلال هذه الحقول، فإن الخسائر الفلسطينية المتراكمة تقدر بمليارات الدولارات. وبناء على ذلك، حرم الشعب الفلسطيني من فوائد استخدام هذا المورد الطبيعي لتمويل التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتلبية احتياجاته من الطاقة طوال هذه الفترة وما زالت هذه الخسائر مستمرة في الارتفاع.
لا يمكن فصل الخلافات والتوترات المتعلقة بالنفط والغاز الطبيعي عن السياق السياسي الذي يحيط بها، وحقيقة أن الفترة التي تم فيها اكتشاف الغاز الطبيعي تزامنت مع عدد من التطورات السياسية المهمة في المنطقة. يتقاطع السياق السياسي في العديد من المنعطفات الحاسمة مع تطورات موارد النفط والغاز الطبيعي وبالتالي يزداد الوضع السياسي تعقيدا. إن تجاهل هذه التعقيدات لا يمكن إلا أن يسلب التحليل العديد من المحددات الحاسمة.
إن استغلال السلطة القائمة بالاحتلال للموارد الطبيعية الفلسطينية، بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي، يفرض على الشعب الفلسطيني تكاليف باهظة تستمر في التصاعد مع استمرار الاحتلال. وهذا لا يتعارض مع القانون الدولي فحسب، بل ينتهك أيضا العدالة الطبيعية والقانون الأخلاقي. وحتى الآن، تراكمت التكاليف الحقيقية وتكاليف الفرصة البديلة للاحتلال حصرا في مجال النفط والغاز الطبيعي إلى عشرات، إن لم يكن مئات، مليارات الدولارات.

قناة بن غوريون
في الآونة الأخيرة، بداعي الحرب، تم إحياء فكرة مشروع قناة بن غوريون، فقد ظهرت بعض المقالات في وسائل الإعلام حول هذا الموضوع[6]. هذا وتربط القناة المقترحة خليج العقبة (إيلات) في البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث تمر عبر دولة الاحتلال وتنتهي في قطاع غزة أو بالقرب منه (عسقلان). وقد وصفت بأنها بديل إسرائيلي لقناة السويس، وكان قد تم اقتراحها في ستينيات القرن العشرين بعد تأميم الرئيس عبد الناصر لقناة السويس.
في الواقع، ظهرت الأفكار الأولى حول ربط البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط في منتصف القرن 19 من قبل البريطانيين الذين أرادوا ربط البحار الثلاثة: الأحمر والميت والأبيض المتوسط. ولكن بالنظر إلى أن البحر الميت الذي يقع على عمق 430.5 مترا تحت مستوى سطح البحر فقد اعتبرت هذه الفكرة غير مجدية.[7] تم طي المشروع لمدة طويلة ولكنه عاد إلى الحياة بعد تأميم الرئيس عبد الناصر للسويس، بحيث أصبح الأمريكيون مهتمين بالبديل الجديد لعدة أسباب كما سيتم توثيقه هنا.
ففي يوليو 1963، كتب H. D. Maccabee من مختبر لورانس ليفرمور الوطني، بموجب عقد مع وزارة الطاقة الأمريكية، مذكرة تستكشف إمكانية استخدام 520 تفجيرا نوويا تحت الأرض للمساعدة في حفر حوالي 250 كيلومترا من القنوات عبر صحراء النقب[8]. تم تصنيف الوثيقة على أنها سرية حتى عام 1993. وجاء في الوثيقة التي رفعت عنها السرية: “ستكون مثل هذه القناة بديلا ذا قيمة استراتيجية لقناة السويس الحالية وربما ستساهم بشكل كبير في التنمية الاقتصادية للمنطقة المحيطة”[9].
عادت فكرة قناة بن غوريون إلى الحياة مرة أخرى في الوقت الذي تم فيه الإعلان عما يُسمى بالاتفاقات الإبراهيمية بين دولة الاحتلال والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان. ففي 20 أكتوبر 2020، حدث ما لا يمكن تصوره – وقّعت شركة خطوط أنابيب أوروبا آسيا المملوكة لدولة الاحتلال (EAPC) وشركة خطوط الأنابيب الإماراتية – MED-RED Land Bridge – اتفاقية حول استخدام خط أنابيب النفط إيلات-عسقلان لنقل النفط من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط[10].
ففي 2 أبريل 2021، أعلنت دولة الاحتلال أنه من المتوقع أن يبدأ العمل في قناة بن غوريون بحلول يونيو 2021. ومع ذلك، لم يحدث هذا نظرا لوضع غزة كجيب فلسطيني تحكمه حماس. يفسر العديد من المحللين أن إعادة الاحتلال الإسرائيلي الحالي لقطاع غزة على أنه أمر ينتظره العديد من السياسيين الإسرائيليين من أجل إحياء المشروع القديم[11]. سمي المشروع على اسم أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال، “الأب المؤسس لدولة إسرائيل”، ديفيد بن غوريون.
عندما يتم النظر في المسار المخطط بمزيد من التفصيل، يمكن ملاحظة أن القناة تبدأ عند الحافة الجنوبية لخليج العقبة، من مدينة إيلات الساحلية بالقرب من الحدود الإسرائيلية الأردنية وتستمر عبر وادي عربة لحوالي 100 كيلومتر بين جبال النقب والمرتفعات الأردنية. ثم يتجه غربا قبل البحر الميت، ويستمر عبر وادٍ في سلسلة جبال النقب، ثم يتجه شمالا مرة أخرى لتجاوز قطاع غزة والانضمام إلى البحر الأبيض المتوسط في منطقة عسقلان. ولكن هذا المسار ليس أقصر مسافة، ولا تعتبر البنية الجيولوجية مثلى بعيدا عن التضاريس الرملية في النقب. فالذهاب إلى غزة، يضمن ميزة أقصر مسافة وكذلك التضاريس الصخرية التي توفر الكثير من تكاليف الصيانة وتفتح المجال أمام توسيع القناة وتعميقها. يتم الاستشهاد بهذه المزايا كأسباب حاسمة للإبادة الجماعية الحالية التي ترتكبها إسرائيل في غزة حيث تهدف الى افراغها من سكانها بجعلها منطقة غير قابلة للسكن مما يفسح المجال لتمرير قناة بن غوريون عبرها.

قناة السويس
لا يمكن الاستخفاف في أهمية قناة السويس للاقتصاد العالمي. لقد تم افتتاح قناة السويس في عام 1867 مما اتاح تقصير زمن طريق الشحن بين أوروبا وأفريقيا وآسيا لمدة ثلاثة أسابيع على الأقل[12]. فبدلا من الإبحار حول الساحل الجنوبي لأفريقيا (رأس الرجاء الصالح) يمكن للسفن استخدام قناة السويس كطريق أسرع وأكثر اقتصادا. هذا وتعتبر القناة ضرورية لنقل النفط والغاز من منطقة الشرق الأوسط إلى أسواق أوروبا والشرق الأقصى إضافة إلى الحبوب والمنتجات والمعدات الصناعية من أسواق أوروبا والشرق الأقصى إلى الشرق الأوسط وشمال وجنوب إفريقيا.
تمر حوالي 18000 سفينة عبر قناة السويس سنويا وتنقل 12٪ من التجارة العالمية، ويلعب النقل البحري عبر قناة السويس دورا رئيسيا في الاقتصاد العالمي لأنه يدعم سلاسل التوريد الدولية ويحفز النمو الاقتصادي في القارات المتصلة، فقناة السويس هي المشروع الاقتصادي الأكثر قيمة في مصر، والذي حقق في السنة المالية 2022-23 إيرادات قياسية تقدر بنحو 9.4 مليار دولار (دولار أمريكي) أو حوالي 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي لمصر.

خصائص القناة الجديدة
على الرغم من أن قناة بن غوريون أطول بمقدار الثلث من قناة السويس، إلا أنها ستكون أكثر كفاءة لأنه بالإضافة إلى قدرتها على استيعاب عدد أكبر من السفن، فإنها ستُمَكن من الملاحة المتزامنة في اتجاهين للسفن الكبيرة من خلال تصميم ذراعين للقناة. فعلى عكس قناة السويس، التي تقع على طول الشواطئ الرملية، سيكون للقناة الإسرائيلية جدران صخرية تتطلب القليل جدا من الصيانة. وتخطط دولة الاحتلال لبناء بلدات صغيرة ومراكز سياحية وفنادق ومطاعم ومقاهٍ على طول القناة.
سيكون لكل فرع مقترح من القناة عمق 50 مترا وعرض حوالي 200 متر. سيكون أعمق ب 10 أمتار من قناة السويس، بحيث يمكن للسفن الكبيرة التي يبلغ طولها 300 متر وعرضها 110 أمتار استعمالها، وهو الحجم الحالي لأكبر السفن في العالم بما في ذلك حاملات الطائرات الكبيرة، أن تمر عبر القناة الجديدة.
سيستغرق بناء القناة 5 سنوات وسيشمل 300000 مهندس وفني من جميع أنحاء العالم. تتراوح التكلفة التقديرية للبناء بين 16 و55 مليار دولار مما يتيح لدولة الاحتلال أن تكسب 6 مليارات دولار سنويا. تخطط هذه الدولة وحلفاؤها (في المقام الأول الولاياتُ المتحدة وبريطانيا العظمى) للسيطرة على القناة مما سيكون له تأثير كبير على سلاسل التوريد الدولية للنفط والغاز والحبوب وعلى التجارة العالمية بشكل عام[13] ،ما يعني أن قناة بن غوريون تمثل تقاطعاً لمصالح دولة الاحتلال مع مصالح الولايات المتحدة ومصالح الدول الاوروبية المؤثرة لترسيخ مشروع اعادة سيطرتهم على الممرات المائية العالمية.

أهمية قطاع غزة بالنسبة للقناة
لم تتضمن الخطة الأصلية لقناة بن غوريون المرور عبر قطاع غزة، ولكن إذا تم تدمير غزة وتهجير الفلسطينيين، وهو السيناريو الذي تنفذه دولة الاحتلال الآن، فإن ذلك سيساعد المخططين الإسرائيليين على خفض تكاليف الصيانة، وتقصير مسار القناة وضمان بنائها داخل التضاريس الصخرية في غزة.
ولكن حتى لو لم تنتهِ القناة في قطاع غزة نفسه، فمن الصعب تصديق أن الإسرائيليين سيبنونها بالقرب من أرض فلسطينية مثل ما كان مخططا لها أن تنتهي في عسقلان حيث إن بُعد القناة بضع عشرات من الكيلومترات فقط عن قطاع غزة سيجعلها ضعيفة للغاية وعرضة للصواريخ الفلسطينية ومدافع الهاوتزر والطائرات بدون طيار وغيرها من الأجهزة. هذا هو السبب في أن الشرط الأساسي لبناء القناة – بغض النظر عن المكان الذي ستنتهي به على سواحل البحر الأبيض المتوسط – هو السيطرة العسكرية الإسرائيلية على منطقة غزة وافراغها من سكانها. بالنظر إلى هذه الأسباب المنطقية، فلا يمكن استبعاد هذا الهدف الإسرائيلي كعامل أساسي وخطير لاستهداف الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة.
ومن الجدير بالذكر انه كان لدى دولة الاحتلال دوافع قوية لحفر قناتها الخاصة بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط لأنها حُرمت من استخدام قناة السويس من قبل مصر في عدد من المناسبات. فمنذ إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948 وهزيمة الدول العربية في الحرب الإسرائيلية العربية الأولى 1948-1949 حتى أزمة السويس عام 1956، ظل مضيق تيران وقناة السويس مغلقين أمام سفن الشحن الإسرائيلي. فقد تم إغلاق قناة السويس في 1956-1957 بسبب الحرب الإسرائيلية العربية الثانية وتأميم القناة، والتي نفذها بنجاح الرئيس جمال عبد الناصر.
ومن بعد اعادة العمل في قناة السويس عام 1957، استمرت مصر في منع السفن الإسرائيلية لأنها لم تعترف بدولة الاحتلال. فخلال السنوات العشر من 1957 إلى 1967، وصلت سفينة واحدة فقط ترفع العلم الإسرائيلي وأربع سفن ترفع أعلاما أجنبية إلى ميناء إيلات كل شهر. وخلال الأعوام 1967-1975 وبسبب الحروب الإسرائيلية العربية الثانية والثالثة والرابعة وما تلاها من حظر نفطي عربي، تم إغلاق قناة السويس مرة أخرى مما أعاق بشدة قدرة دولة الاحتلال على التجارة مع إفريقيا وآسيا (خاصة استيراد النفط من الخليج العربي).
وقد تغير هذا الوضع بشكل كبير في عهد الرئيس السادات الذي وقع معاهدة سلام مع دولة الاحتلال في عام 1979، ومؤخرا قام الرئيس السيسي بالتنازل عن سيادة مصر عن جزيرتي المضيق اللتين تسيطران على المرور إلى ميناء دولة الاحتلال الوحيد على خليج العقبة. وفي كلتا الحالتين، عزز ذلك حرية المرور الكامل عبر المضيقين لسفن دولة الاحتلال. والسؤال الجوهري الآن لمصر: كيف سيكون رد فعلها على الخطط الإسرائيلية لاستبدال قناة السويس بقناة بن غوريون؟
قد يندم الرئيس السيسي قريبا على وضع ثقته في دولة الاحتلال والحكومات الغربية متغاضيا عن مصير مليوني فلسطيني في قطاع غزة الذين يقفون حاجزا أمام مخططات دولة الاحتلال لاستبدال قناة السويس المصرية على الرغم من أن بنيامين نتنياهو كان قد أعلن مرارا وتكرارا عن دعمه لفكرة قناة بن غوريون إلى جانب فكرة بناء خط سكة حديد فائق السرعة من إيلات إلى بئر السبع ومواقع إسرائيلية أخرى وجسر بري يربط دبي بالمدن الإسرائيلية الرئيسية[14] مما يشكل تحديا حقيقيا لقناة السويس.
  
الدوافع الاقتصادية للغرب لإيجاد بديل لقناة السويس
وتحظى القناة الجديدة بدعم القوى الغربية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. الدوافع الغربية لخلق بدائل لقناة السويس لا تختلف كثيرا عن دوافع إسرائيل: أولا، القناة ضيقة وضحلة ويمكن أن يتم حظرها بسهولة بالغة. في مارس 2021، تم إغلاق قناة السويس لمدة ستة أيام بسبب سفينة الحاويات Ever Given، التي علقت في منتصف الممر المائي بسبب هبوب رياح قوية وبالتالي أعاقت حركة المرور. أدى الحصار المفروض على أحد أكثر طرق التجارة ازدحاما في العالم إلى تباطؤ كبير في التجارة بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. وكانت 369 سفينة على الأقل تنتظر في طابور للمرور عبر القناة محملة ببضائع بقيمة 9.6 مليار دولار. تكبدت الموانئ والشاحنون ووكلاء الشحن والمصانع ومحلات السوبر ماركت والحكومات وأصحابُ المصلحة الآخرون خسائرَ فادحة ومشاكلَ فنية؛ ومع ذلك، فهي أقل أهمية من الأهداف الجيوسياسية والاستراتيجية، لا سيما تلك التي ظهرت في أعقاب الحرب الأوكرانية الروسية والتوترات مع الصين.
ثانياً، لا يريد الغرب الاعتماد على قناة تسيطر عليها مصر، التي تتمتع ببعض العلاقات مع الاتحاد الروسي والصين، والتي يعتبرها الغرب تهديدا أمنيا كبيرا. ومن الجدير بالذكر بأن مصر قد أصبحت عضوا كامل العضوية في مجموعة بريكس اعتبارا من 1 يناير 2024. لا يريد الغرب أن يكون لمصر بشكل مباشر، ولا لروسيا والصين بشكل غير مباشر، أية سيطرة حصرية على التجارة العالمية عبر قناة السويس.

طريق الحرير وطريق التجارة الهندي السعودي الجديد لتجاوز إيران
 لقد تعامل الأمريكيون وشركاؤهم بريبة واستنكار مع مشروع طريق الحرير الصيني الجديد الضخم، الذي تلعب فيه مصر دورا مهما. في عام 2014، وقّعت بكين والقاهرة “اتفاقية الشراكة الاستراتيجية”، واتفقتا على التعاون في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والاقتصاد ومكافحة الإرهاب والجريمة الإلكترونية. في الواقع، خلال زيارة شي جين بينغ إلى مصر في عام 2016، تم توقيع 21 اتفاقية أخرى، بما في ذلك عقد بقيمة 15 مليار دولار من الاستثمارات الصينية في مشاريع مختلفة. جذبت مشاريع البنية التحتية في المدن المصرية اهتماما خاصا من المستثمرين الصينيين. ووفقا لسفير الصين في القاهرة، لياو لي تشيانغ، فإن طريق الحرير الجديد يرتبط ارتباطا وثيقا برؤية مصر 2030 – خطة التنمية الطموحة التي أطلقها الرئيس السيسي. من عام 2017 إلى عام 2022، زادت الاستثمارات الصينية في مصر بنسبة 317٪. وخلال الفترة، نفسها انخفضت الاستثمارات الأمريكية في مصر بنسبة 31٪. وتبلغ قيمة التجارة بين البلدين نحو 20 مليار دولار[15].
يجمع الطريق الجديد الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مع الهند والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل لتطوير طريق تجاري بين الخليج العربي وجنوب آسيا، وهو منافس لمشروع مماثل يشمل إيران والصين. تخطط الولايات المتحدة وشركاؤها لصفقةِ بنية ٍتحتية ضخمة يمكن أن تعيد تشكيل المشهد التجاري في منطقة أوراسيا، وتربط دول الشرق الأوسط بشبكة من السكك الحديدية وتتصل بالهند عبر ممرات الشحن، متجاوزةً إيران ولبنان وتركيا في طرق التجارة من آسيا إلى أوروبا عبر إسرائيل.
ويشمل هذا المشروع أيضا الإمارات العربية المتحدة وأوروبا حيث يتم وضع خطط لبناء موانئ شاملة متعددة الجنسيات وجسور طرق وخطوط سكك حديدية من شأنها أن تواجه نفوذ الصين المتزايد من خلال مبادرة الحزام والطريق العالمية . ذهب الرئيس بايدن إلى اجتماعات مجموعة العشرين في الهند مؤخرا حيث عرض واشنطن كشريك بديل ومستثمر في البلدان النامية، وخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ووفقا لمعهد بروكينغز، فإن “دور الصين المتنامي في الشرق الأوسط يضع القوة العظمى الصاعدة في مواجهة مباشرة مع المصالح الأمريكية المتغيرة في مجالات أمن الطاقة وإسرائيل وإيران”[16].
ويُنظر إلى المشروع الجديد على أنه جزء من الصفقة الضخمة لإدارة بايدن التي من شأنها أن تجعل المملكة العربية السعودية تعترف بإسرائيل. لقد وضع المفهومُ الاستراتيجي ل “التحالف الهندي الإبراهيمي” إطارا لتشكيل مجموعة I2U2، وهي تجمع من الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة[17].
الهدف الرئيسي من هذه الصفقة بالنسبة للولايات المتحدة هو تحقيق الصفقة المحتملة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية بعد أن توصلت إدارة الرئيس آنذاك دونالد ترامب إلى اتفاقيات مماثلة بين إسرائيل والمغرب والسودان والبحرين والإمارات العربية المتحدة.
تروج الولايات المتحدة لمزايا المشروع التي يمكن أن تقلل من أوقات الشحن والتكاليف واستخدام الوقود وتجعل التجارة أسرعَ وأرخص، مما سيعزل إيران و يقلل من أهميتها في عبور البضائع في المنطقة باعتبار هذا هدفا أساسيا للقائمين على هذا المشروع والذين يعتبرون إيران منافيا رئيسيا لهم.
على المستوى السطحي، يوصف هذا المشروع بأنه مشروع لخلق التجارة بين مجموعة الدول التي تجمعها الولايات المتحدة تحت أجنحتها لمواجهة مشروع طريق الحرير الصيني، ولكن في جوهرها، يتم تشكيلها كمشروع تحويل تجاري يحاول وضع الهند كبديل للصين وتعزيز “تطبيع” علاقات دولة الاحتلال مع المملكة العربية السعودية إلى جانب عزل إيران ومصر ولبنان وسوريا وتركيا عن مشروع هذه الطريق الجديدة.
من ناحية أخرى، تحاول إيران والصين مع روسيا مقاومة هذا المشروع بقدر من النجاح. إن حرب غزة والقصف العشوائي والتدمير الذي تستخدمه إسرائيل وكذلك الجمود في الحرب الأوكرانية الروسية يقوّض خطط ورغبات إدارة بايدن. في مقال نشر العام الماضي في مجلة طهران تايم، أشارت إيران إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا، “على الرغم من عواقبه الوخيمة على العديد من البلدان ، قد قدم لإيران فرصة ذهبية لتحقيق الهدف الذي طال انتظاره المتمثل في أن تصبح مركز العبور العالمي الذي كانت عليه من قبل”، في إشارة إلى طريق الحرير، وهي شبكة قديمة من طرق التجارة الأوراسية النشطة من القرن الثاني قبل الميلاد حتى منتصف القرن 15 والتي تمتد على أكثر من 6400 كيلومتر (حوالي 3976. 78 ميل). كما جعلت الحرب في غزة من الصعب على الدول العربية التي قامت بتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال متابعة المزيد من خطوات التطبيع إن لم تُلغَ هذه الاتفاقيات تماما. كل هذا، بالطبع، هو شوكة في خاصرة صُناّع السياسة الأميركيين الذين يبحثون عن طرق بديلة لمنع الصين ولتطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية.

الاستنتاجات
ربما كانت أحداث 7 أكتوبر 2023 “مفاجأة” للمسؤولين السياسيين والعسكريين في إسرائيل، وما كان ينبغي أن تكون غير متوقعة. إن اندلاع العنف له أسباب معروفة، وهي ليست سراً. لطالما حذرت منظمات حقوق الإنسان (الإسرائيلية والفلسطينية والأمريكية والدولية) ومسؤولو الأمم المتحدة والبرلمانيون والحكومات في جميع أنحاء العالم من أن إنكار إسرائيل الطويل الأمد للحرية والمساواة للفلسطينيين سيستمر في إثارة دورات من العنف[18].
يوجد أكثر من 2 مليون فلسطيني في غزة سجناء في سجن محاصّر عملياً لكنه مفتوح على المعاناة. لم يفعل المجتمع الدولي شيئا لوقف الحصار الإسرائيلي أو وقف ضم الحكومة المتطرفة الأخيرة للأراضي الفلسطينية وغض الطرف عن 1000 حدث عنف من قبل المستوطنين وجيش الاحتلال ضد القرى الفلسطينية الأصلية في الضفة الغربية في عام (2023). وأدلى الوزراء الإسرائيليون يوميا بتصريحات استفزازية عن المسجد الأقصى وهاجم الجنود الإسرائيليون المصلين الذين كانوا يصلون هناك. نشأت أجيال من الفلسطينيين، 80 في المئة منهم لاجئون، في قطاع غزة الفقير المزدحم، وهو إحدى أكثر قِطَع الأرض ازدحاما على وجه المعمورة. منذ أن حاصرت إسرائيل غزة في عام 2007، لم يُسمح لمعظمهم أبدا بمغادرة القطاع المحاط بسور وحراسة عسكرية، ولم يلمحوا أبدا الضفة الغربية أو القدس، ناهيك عن فلسطين في عام 1948، وبالتأكيد ليس العالم الأوسع. كما أن معدلات البطالة فلكية ويصعب العثور على تصاريح عمل وحتى الزيارات الإنسانية والطبية ممنوعة[19].
كما أنه ليس من المستغرب أن تسعى إسرائيل إلى جعل غزة غير صالحة للسكن أو غير صالحة للعيش، فالمنافع الاقتصادية من الغاز والقناة الجديدة والطريق التجاري الجديد عالية جدا مما تدفع الاسرائيليين بحيث لا تجذب المصالح والمخططات الإسرائيلية فقط بل أيضا المنافع الاستعمارية للمعسكر الغربي. إن الاستغلال الاستعماري للدول المستعمرة موثق جيدا ولا ينبغي لأحد أن يتعامى عنه بالنظر إلى السجل الإسرائيلي في الاستيلاء على الموارد والأسواق الفلسطينية. لقد كان الاحتلال الإسرائيلي غيرُ الشرعي لفلسطين مربحاً جدا ًلإسرائيل لدرجة أنه ليس من المستغرب على الإطلاق القول بأن هذه الحرب تدور حول الغاز والنفط وطرق التجارة والمزايا الاقتصادية الاستعمارية والاستغلال[20]. لكنّ ذلك لا يَحُول دون التشكيك في التقاعس الدولي وإهمال الحل العادل للقضية الفلسطينية التي تزيد من نفور شعوب الشرق الأوسط من حكوماتها ومن الغرب المتواطئ.
غير أن المنافع الاقتصادية من المخططات والبرامج التي أوردناها أعلاه مربحة للإسرائيليين بالقدر الذي يدعمه تقاطع مصالح العالم الغربي وعميلته اسرائيل. فالأوروبيون يتطلعون الى الاستفادة من الغاز في البحر المتوسط الذي تؤمنه لهم اسرائيل بديلا عن الغاز الروسي، كما أنهم يجنون من المنافع التي تحد من قدرة الصين على منافستهم في الأسواق العالمية.
قد تصمت المدافع قريبا لكن أصداء هذه الحرب وتداعياتها ستستمر لفترة طويلة مقبلة.

د. عاطف قبرصي – جامعة ماكماستر