العالم يتغيّر…لكن لا عودة إلى الوراء

خلال الأيام القليلة الماضية، إنهمكت الدوائر الإعلامية والسياسية والعسكرية في “المعسكر الأوروبي – الأطلسي – الأميركي” بمحاولة تفكيك الرسائل المبطنة التي تضمنتها المقابلة الصحافية المتلفزة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي أجراها مقدم البرامج الأميركي تاكر كارلسون. وهي المقابلة الأولى التي يمنحها بوتين لصحافي “غربي” منذ أن دخلت القوات الروسية قبل حوالي السنتين إلى مناطق متنازع عليها في شرق أوكرانيا.
من الطبيعي أن يعكف أصحاب القرار في العواصم الغربية الأساسية على تحليل أجوبة بوتين المطولة، فهم يخوضون حرباً مع روسيا من خلال أوكرانيا (بالوكالة؟). وهذا يعني أنهم مقصودون بكل ما يصدر عن موسكو على الأصعدة المختلفة. أما نحن، في الوطن السوري وعالمنا العربي، فلا نعطي أهمية إستثنائية لـ”الحساسيات” الغربية المتعلقة بروسيا. وإنما سنتوقف عند أبرز المسائل التي ستنعكس بطريقة مؤثرة على أمتنا التي تمرّ حالياً في واحدة من أعقد وأخطر الأزمات المصيرية في تاريخها المعاصر.
نتوقف عند عبارات شديدة الأهمية نطق بها بوتين وعلى وجهه تعابير ابتسامة ساخرة: “يجب أن يعرف الغربيون أنهم لن يستطيعوا هزيمة روسيا”. وكشف للصحافي الأميركي أن روسيا “متفوقة على الولايات المتحدة في أنواع عدة من الأسلحة الاستراتيجية المتطورة”. ثم أضاف: “إن العالم سيتغيّر بغض النظر عما ستؤول إليه الحرب في أوكرانيا”!
إذن، العالم سيتغيّر حسب ما يعتقد بوتين. بل نراه أيضاً يدعو إلى هذا التغيير ويعتبره ضمانة للسلم العالمي! لكن طبيعة التغيير وإلى أين سيصل لا تناسب المصالح الاستراتيجية للحلف “الأميركي – الأطلسي – الأوروبي”. ذلك أن مكونات هذا الحلف، بصيغة أو بأخرى، دأبت منذ القرن السابع عشر، وبالتحديد في القرن الثامن عشر،على تأكيد هيمنتها على العالم بالاستعمار والاستعباد والإبادة. وما كانت تلك الدول لتحقق إزدهارها وسيطرتها وتسلطها لولا النهب المنظم لثروات الشعوب المغلوبة على أمرها.
وكان المجتمع الدولي يعتقد بأن إنتهاء الحرب الباردة مع سقوط المعسكر الاشتراكي وتشظي الاتحاد السوفياتي يمكن أن تبشّر بقيام نظام عالمي جديد بعيداً عن عقلية المنافسة والإستئثار. غير أن بروز تيار “المحافظين الجدد” في الولايات المتحدة أحبط تلك الآمال. إذ أنهم رأوا في إنهيار المنظومة الاشتراكية مدخلاً لإعلان إنتصار المعسكر الرأسمالي بقيادة أميركية، وبالتالي أخذوا يروجون للقطبية الأحادية وحلول القرن الأميركي المطلق. لكن حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر، فقد أصيبت النزعة القطبية الأحادية بنكسات سياسية وعسكرية لم تنفع معها المغامرات الأميركية المتنقلة من بلد إلى بلد!
إن التغيير الذي تحدث عنه بوتين لن يحدث من تلقاء ذاته، فهو يحتاج إلى عوامل تحركه في الاتجاه الصحيح، وإلى أدوات تفرضه عالمياً، وأخيراً إلى غاية تؤمّن مصالح الكثرة وليس فقط مصلحة الواحد أو القلة. وهناك مؤشرات تؤكد لنا أن “الغرب” (الأميركي – الأطلسي – الأوروبي) لم يعد صاحب المبادرة أو القرار النهائي كما كان يحدث في السنوات التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي. ومع ذلك، فسيكون من الصعب عليه التخلي عن هيمنته لصالح دول صاعدة كما الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، أو لروسيا التي كانت دولة “عظمى” وتريد أن تستعيد مكانتها على المرسح العالمي.
جميع المراقبين الذين تابعوا “الزحف” الأطلسي المتواصل نحو الحدود الروسية، كانوا يتوقعون انفجار الوضع في أوكرانيا بعد سيطرة القوى المعادية لروسيا على مقاليد السلطة في كييف. فإذا كانت موسكو قد أرسلت قواتها إلى جورجيا (الأقل أهمية على المستوى الاستراتيجي) لحماية مقاطعتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، فهل يُعقل أن تترك الأمور على غاربها في أوكرانيا؟ وهذا ما وقع بالفعل. موسكو ضربت في قلب “المشروع الغربي” المُعد لأوكرانيا، بعدما كانت قد ضربت الوجه الآخر من ذلك “المشروع” الذي كان يُنفذ في الجمهورية السورية.
قد تكون الحشود العسكرية “الغربية” في البر والبحر والجو مرتبطة بما يجري في غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي. غير أننا نقترح النظر إلى “الغزو” الجديد في أبعاده الاستراتيجية القائمة على “التغيير”. إذ ليس من باب الصدفة، في رأينا، أن يختار بوتين الحديث عن أن العالم سيتغير في الوقت الذي باتت القوات الأميركية (مع حلفائها) تتواجد في غالبية دول العالم العربي.
إنها خطوات “تغييرية” معاكسة لحركة التاريخ.
10 شباط 2024