من أكاذيب التمدين إلى أكاذيب حقوق الإنسان

من أكاذيب التمدين إلى أكاذيب حقوق الإنسان

ارتبطت الرأسمالية الأولى بحملات الاكتشافات الجغرافية والغزو الاستعماري لقارات وشعوب العالم الثالث، وجرى إنتاج خطاب سياسي عصري لتبرير الغزو وفق ما لاحظه أنور عبد الملك ثم إدوارد سعيد (اختراع الغرب صورة شيطانية للشرق مقدمة لاستعماره تحت شعار التمدين).
كما (اخترع) لهذه الغاية مجموعة من الكتاب والمتثاقفين الشرقيين تتولى تسويق وترويج كذبة التمدين المذكورة وتمكن في ظروف معينة من دفع عدد منهم إلى الواجهة السياسية والثقافية مع تباين في الأولويات بين مستعمر وآخر.
ففي حين اهتم الاستعمار البريطاني بإنتاج (تخب) سياسية وإدارية تحت مظلة الكومنولث، اهتم الاستعمار الفرنسي بإنتاج نخب ثقافية تحت مظلة الفرنكوفونية.
وقد استفاد المستعمرون أيضاً من حقول محددة، مثل الأنثروبولوجيا والاستشراق، كما وفرت لهم الدولة العثمانية البيئة اللازمة باسم الرعايات الأجنبية للملل والنحل المختلطة وذلك بعد أن سيطرت على هيئة الديون العثمانية المتراكمة بسبب الفساد.
مع تحول الرأسمالية والنهب الاستعماري إلى حالة جديدة مع تقدم الثورة العلمية واتساع دور المصارف وتصدير الرساميل باسم جديد هو الإمبريالية وبالتزامن مع ظهور الدول الجديدة واتساع حركة التحرر الوطني، لجأت الإمبرياليات الإمريكية والأوروبية في مواجهة هذه الحركات وخطابها إلى اختراع شكل جديد بديل للتمدين هو حقوق الإنسان وحولته إلى سيف مسلط وأداة لابتزاز وإخضاع الدول والقوى المناهضة للسياسات الإمبريالية، كما في مواجهة الخطاب الاشتراكي للاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي في حينه.
وأنشأت أقلام الاستخبارات في المتروبولات الرأسمالية المختلطة الأمريكية والأوروبية مراكز ومعاهد لحقوق الإنسان تحت عنوان مزيف (المنظمات غير الحكومية) التي انتشرت وتوسعت أكثر في جنوب وشرق العالم وصارت تنافس المنظمات غير الحكومية الحقيقية مثل النقابات المهنية.
أيضاً ومع تخلي الدول في البلدان التابعة عن دورها الاقتصادي والاجتماعي والتحول إلى حالة الدول الشرطية الإيجابية راحت السفارات الأطلسية تدفع جماعات حقوق الإنسان التابعة لتكون شريكاً في المجتمع السياسي نفسه (الدولة).
إلى ذلك بالإضافة لكتاب ساندرز (مع يدفع للزمار) وكتاب كوستلر (الدعارة الأكاديمية) وكتاب ديفيد غرير (مشروع الديمقراطية) التي تفضح دور المخابرات الأمريكية والبريطانية مع (المنشقين المثقفين) عن الاتحاد السوفياتي ونشطاء حقوق الإنسان.. والثورات الملونة وصناديقها ومنابرها ومجلاتها وأعلامها بما في ذلك ما يعرف بالصحافةالاستقصائية، مراكز التابعة لجامعات ومعاهد مثل ييل وكارنيغي وهارفارد وغيرها، ثمة ما يقال تحت أكثر من عنوان بالإضافة إلى الخلفية السابقة الذكر:
أولاً: المرجعيات النظرية لكل الأوساط المذكورة وفي الحقول المختلفة، السياسية والثقافية والأكاديمية والاقتصادية:
على الصعيد السياسي المفكر الأمريكي اليهودي، ليو شتراوس الذي رهن الاعتراف بالديمقراطية وصناديق الاقتراع بنتائجها لا بالعملية التقنية نفسها، فبحسب شتراوس لا يمكن للديمقراطية الحقيقية أن تنتج اشخاصاً وقوى من طبيعة شمولية (يقصد السيادة والسياسة والدعم الاجتماعي والتدخل الحكومي في الاقتصاد والسياسات الاجتماعية). فإذا ما حصل العكس وسقط الليبراليون، ثمة خطأ يجب تصحيحه وفق قانون الغاية الداروينية الاجتماعية، مثله ستيوارت مل الذي اعتبر الديمقراطية ثقافة أنجلوسكسونية، فيما حذر الفيلسوف الفرنسي فوكو من القمع اللامرئي ومثله الروائي البريطاني أورويل في رواية (1984).
على الصعيد الاقتصادي من أشهر المدارس الليبرالية، مدرسة شيكاغو ومؤسسها الأمريكي اليهودي ميلتون فريدمان الذي يشترط لأي حرية سياسية، حرية للأسواق وفق قانون الغابة والداروينية الاجتماعية أيضاً، وهو الأمر الذي لا ينسجم مع الأب الروحي لليبرالية الغربية، جون لوك الذي أكد على أن الحرية وحدة لا تتجزأ من حرية التعبير إلى حرية السوق، ومن قبل ومن بعد ما جاء في كتاب بيركنز (اعترافات قاتل اقتصادي).
على الصعيد الأكاديمي وفق أكثر من مصدر: كوستلر المشار له وما قام به تيري إيغلتون في كتابه (أوهام ما بعد الحداثة) وآلان دونو في كتابه (نظام التفاهة) وجميعها تفضح كذبة الحريات الأكاديمية في عالم تحت الهيمنة غير الماشرة للثقافة الرأسمالية وجوهرها العنصري، والأهم فوكو ومقارباته للقمع العام الذي يتخلل كل التفاصيل كما مر معنا.
ثانياً: بالإضافة للمرجعيات النظرية والإيديولوجية لهذاا الخطاب المتهافت عن أكاذيب حقوق الإنسان وخلفياتها، فإن التجارب العملية لهذ الخطاب أكثر سوءاً بما حملته من انتهاكات مروعة ومناخات دموية ونهب وفساد وتجاوز الفساد في أعتى الأنظمة التابعة:
رغم أن جماعات حقوق الإنسان لا تنسى الإشارة إلى البروتوكولات والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنها غالباً ما تفعل ذلك للدفاع عن نفسها في مواجهة الاتهامات المحقة، التي تطالها تحت عنوان (النقد الدائم من قبل هذه الجماعات) لما تمسيه (الشمولية) والتي تعني عملياً سياسات الدعم الاجتماعي للطبقات الشعبية وللسلع والخدمات الأساسية بل أن البيان التأسيسي لها والمعروف بوثيقة الإسكندرية أكد على العلاقة الجدلية بين حقوق الإنسان السياسية وبين الحريات الاقتصادية، أي فلسفة السوق، جوهر السياسات الإمبريالية.
ولا يغيب عن بال أن الحديث عن حقوق الإنسان والتعبير والتنظيم والمشاركة السياسية حديث لا معنى له إطلاقاً في غياب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي يعني تبنيها وتحقيقها الصدام الحتمي مع المتروبولات الإمبريالية ومع أدواتها مثل جماعات الثورات المولنة وحقوق الإنسان المزعومة.
كما بات معروفاً الحجم الهائل للفقراء والجوعى والعاطلين عن العمل وانحدار الحق في الحد الأدنى من الخدمات التعليمية والصحية، فيما دخل نشطاء حقوق الإنسان والثورات الملونة نادي الأغنياء والطفيليين الفاسدين.
لو أخذنا حالات عملية لسيطرة جماعة الثورات الملونة وحقوق الإنسان على السلطة بفضل ضخ الأموال والحملات الإعلامية من قبل السفارات الأنجلوسكسونية الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية، لوجدنا أنها قدمت (نماذج) لسلطة القمع والفساد والنهب لا تقل عن قريناتها السابقة، ومن ذلك:
بعد انهيار (الدولة الشمولية) في الاتحاد السوفياتي قفزت إلى السلطة في موسكو مجموعة من (رواد السفارات الأطلسية) والمافيا اليهودية الروسية بزعامة يلتسين الذي أعلن عن انتخابات حرة جديدة للبرلمان (الدوما) وكله ثقة تحت تأثير الإعلام الأوروبي والأمريكي واليهودي بأن الشيوعيين والوطنيين سيسحقون في هذه الانتخابات، بيد أن النتائج كانت مخالفة لتوقعاته ولسياساته الليبرالية، فما كان من هذا (الديمقراطي الجديد) وبتحريض من أقلام الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والمافيا اليهودية إلا أن قام بقصف البرلمان بالدبابات مما تسبب في مقتل وإصابة المئات ومن ثم حل البرلمان وإجراء انتخابات مزورة وسط دعم الأمريكي اليهودي جورج سوروس وبقية الهيئات العاملة باسم حقوق الإنسان والثورات الملونة.
واصلت الجهات الأمريكية والأوروبية والصهيونية نفسها سياسات يلتسين في أوكرانيا، وتمكنت من دفع أوكراني يحمل الجنسية الإسرائيلية إلى رئاسة هذا البلد، بعد إشعال النار في كل مؤسسات الدولة واعتداء المظاهرات العفوية على المظاهرات الأخرى وإطلاق الانر عليها.
في غضون سنوات قليلة، أصبحت أوكرانيا في القائمة الأولى من قوائم الدول الأكثر فساداً قبل أن تجرها الثورة الملونة بإرشادات سوروس – المشار له – إلى امتهان كرامة الأوكرانيين من أصل روسي في الدونباس (أرض روسية أصلاً) وصولاً إلى تحضير المسرح الأوكراني لحرب أطلسية ضد روسيا بعد صعود بوتين وتراجع نفوذ جماعات الثورات الملونة في روسيا نفسها.
على خطى يلتسين وزيلنسكي، تمكنت مجموعة مماثلة من الثورات الملونة من اختطاف السلطة في أرمينيا بزعامة باشينيان، وعندما سقطت في اختبار الدفاع عن الأرمن في إقليم كارباخ، واستسلمت أمام أذربيجان، راحت تحمل روسيا مسؤولية ذلك فيما كانت قد استقدمت وحدات أمريكية وقامت بمناورات استفزازية معها على الحدود الروسية ولم تفعل الوحدات المذكورة شيئاً لإسناد الأرمن في الإقليم المذكور.
أيضاً عندما خرج الشعب الأرمني في مظاهرات غاضبة ضد سلطة باشنيان أمر قواته بتفريقها بالقوة، وهو الأمر الذي سبق ومارسه عند اندلاع مظاهرات تطالب بفتح ملفات الفساد التي تزامنت مع صعوده.
وبالمثل قضايا الفساد والتجويع واللصوصية التي تزامنت مع الثورات الملونة التي حملتها السفارات الأطلسية إلى السلطة في جورجيا وغيرها.
ولا يزال ما حدث في تشيلي 1973 في ذاكرة قارة أمريكيا اللاتينية وكل شعوب العالم حين نظمت المخابرات الأمريكية برعاية كيسنجر وشركات الاتصالات والنحاس انقلاباً عسكرياً دموياً على الرئيس المنتخب على الطريقة الديمقراطية (الغربية) انتهى باغتيال الرئيس سلفادور الليندي وعشرات الآلاف من الطلاب والعمال والنساء الذي احتجوا على الانقلاب.
وقد حظي الانقلاب الإجرامي بتأييد واشنطن ومدرسة شيكاغو وأنصار الخصخصة في كل مكان، بل إن إدارة جائزة نوبل منحت جائزتها بعد عام فقط لفيلسوف الاقتصاد ملتون فريدمان بعد تأييده الانقلاب.