هل انقطع الفعل الإبداعي في سورية؟

سؤال:
كيف نفسر انقطاع الفعل الإبداعي في سوريا؟
وبالكلام عن الفعاليات هل يمكن ان نرسم تصوراً للفعالية السياسية ذروتها وعوامل تراجعها وإلى اين انتهت؟
بالمقابل الفعالية الثقافية السورية ما هو مسارها التاريخي و كيف استطاعت ان تتجنب تراجع الفعالية السياسية وأن تستمر؟
ما هي أهم المحطات التي يمكن رصدها في هذا المسار؟

جواب:
لم أفهم مقصدكم من انقطاع الفعل الإبداعي، هل تاريخياً أم راهناً؟ سأفترضَ أن المقصد تاريخي
وأجيبك بناءً على هذا.
لم ينقطع الفعل الإبداعي في مسار الحضارة السورية بشكلٍ عام لأن ضامنَ هذا الفعل هو الرافعة الاجتماعية التي لا تفكر بأن تبدع بقدرِ ما يأتي الإبداع هنا نتاج حركة المجتمع وتطوره وتحقيق رفاهيته حتى أصبحنا نجده في حقل الدراسات التاريخية انه فعل ابداعي، مع ملاحظة تراجع الفعل الإبداعي في حالات ضربات المناخ التي تشلّ المجتمعات بحيث تسعى الى الحفاظ على وجودها في مثل هكذا ظواهر ومع هذا ربما نجد فعلاً ابداعياً حين ذاك يكون استجابة لتحريض مناخي سلبي.
أيضاً في الحروب التاريخية الكبرى يضعف الفعل الإبداعي لكننا نجد استجابة لتحريضٍ عسكريٍ عبر اختراع أسلحة جديدة او وسائل دفاع مبتكرة أيضا كما قدمت لنا معطيات تدمر
من ابتكارات دفاعية وهجومية حين واجهت جيش روما.
اذاً، دون أزمة وجودية الإبداع فاعل عبْرَ رافعته الاجتماعية وهنا نركز على مفهوم الإبداع كبحثٍ عن ابتكار ما وتحقيق مسعى أكثر جدوى في حياة المجتمع.
من هنا يمكن فهم مجمل الخطوط الإبداعية سواء في نشوء الزراعة وتأنيس الحيوان وصولاً الى اختراع الكتابة عبر مراحل إبداعية متلاحقة لنصل نحو الى الأبجدية وهذا ينسحب على مجمل الفنون والشؤون الاجتماعية.
كنظرةٍ بانورامية في محاولة استجلاءِ حركة الإبداع في المشرق نلحظ أن لا شيء أدى الى تراجع الإبداع حتى في الحروب الكبرى او الحروب بين الممالك والدول، لا بل أنه في خضم الصراع العسكري الآشوري – الآرامي سنجد تفاعلات كتابيةٍ بين مسمارية آشورية وخطية آرامية، أذاً تحمل الصراعات العسكرية بين الأرومات المشرقية نواة ابداعها، الإبداع هنا هو في التفاعل ضمن صيرورةَ الحياة.
النقطة المؤلمة الآن او كما نقول اللحظة التاريخية الحرجة هي حين تسقط الفاعلية السياسية او المركز الحضاري فاسحاً المجال لفراغ سياسي وحضاري سيؤدي الى ضعف الفعل الإبداعي، نحن هنا امام مثال لسقوط مملكة بابل في 1595 ق. م ما افسح المجال لفراغٍ سياسي حضاري على مدى المشرق وانسياح شعوب وفرسان… الخ، فقد التوازن هذا اتعبَ الرافعة الاجتماعية المشرقية مما حملها مسؤوليات أكبر لحوالي 300 سنة مع الفاعلية المتجددة لآشور ولآرام.
سنقارب انه في عمق هذا الفراغ المخيف والمؤلم كان على أجاريت ان تقوم بفعلها الإبداعي في مزج المسمارية بالسينائية لتخترع الابجدية، وحين ماتت هذه الابجدية مع سقوط أجاريت تلقفت جبيل الفعل الإبداعي في ابجديتها الكنعانية نحو 1100 ق.م، هذا في مجال الفعل الإبداعي الكتابي.
نقمد الثاني ملك أجاريت يُكّرمُ المبدع الأجاريتي مخترع الألفباء، ويطلب منه افتتاح مدرسة لتعليمها في عام 1365 ق.م، ويأمر بكتابة الملاحم الدينية بواسطة النظام الأبجدي الجديد، وأن يُعمِّمَه. هنا نحن أما احتضان السياسي للفعل الإبداعي.
الجمالية المشرقية الأكثر حضوراً نتلمسها في معالم التفاعل والتمازج مع الثقافات الأخرى حتى ليتبدى وكأن التثاقف يقدم فعل ابداعي مشرقي الوجه ايضاً. نقارب هنا فنون النحت والفسيفساء وتبادل لشخوص الأسطورية فيما بين المشرق والثقافات الأخرى، نحن هنا مع الفعل المشرقي في المرحلة الهلنستية الذي عبّرَ عن شوق إنساني مشرقي للتفاعل في كافة المناحي الفلسفية والفنية والأدبية رغم أن الإدارة السلوقية ليست مشرقية بل مقدونية.
بسقوط مملكة بابل كم أشرنا، فّرغَ المشرق من ثقل سياسي، وكان علينا عودة الرافعة الآشورية بدءً من 1200 ق.م أو قبل ذلك بقليل لتعيد الثقل الوجودي للمشرق وسط صراع الأقوياء الإقليميين كمصر والحثيين وسواهما.
اضطرابات هذه المرحلة نجدها في انسياح آرامي من منطقة جبل بشري في البادية الشامية
ومع توضعات عربية بدأت في الظهور في الفضاء الجغرافي الممتد من شمال شبه الجزيرة العربية وحتى البادية السورية.
آشور المتحضرة عانت من هذه التواجدات التي كانت على حال أولية من الحضارة، وصار علينا انتظار مئة عام وأكثر لبدء محاولات التفاعل والاندماج الديمغرافي بين المكونات، وهذا ما كان مع الألف الأول ق.م، مشهد ممالك آرامية، وتواجدات عربية استطاعت التمشرق ولسوف تُعبّرُ عن حضورها بعد حوالي 600 سنة وأكثر مع ضعف الفاعلية السياسية السلوقية عبْر صراعات أُسرها الحاكمة.
مفصلان تاريخيان مهمان أثرا على ثقل المشرق، الأول مع سقوط بابل في الألف الثاني ق.م،
والثاني تداعي الحكم السلوقي وبينهما كان سقوط نينوى وآشور 612 ق.م، ثم بابل منتصف الألف الأول ق.م والذي فسح المجال للفاعلية الفارسية ثم اليونانية كي تجتاحا المشرق، وصولاً إلى الاحتلال الروماني لبلاد الشام والسيطرة الفارسية على الجناح الشرقي الرافدي.
الحالة الثقافية المشرقية تأثرت بهذه الأجواء السياسية السلبية، وبانهيارات المراكز السياسية لكن المرونة ومعالمها الاجتماعية كانت حاضرة على الدوام بحيث تبدو وكأنها عنصر التوازن الحضاري في الملمات الكبرى.
السياج الثقافي الآرامي الضخم والفاعل أكّدَ الحالة الوجودية للمشرق رغم انهيار الممالك الآرامية واستمر فعله كضامن للثقافة المشرقية مع التأكيد على عمق التفاعل الآرامي – العربي المتمشرق والذي لم يشهد صراعاً بينهما بقدر ما كان تمازجاً وتفاعلاً عبّرَ عن نفسه في ممالك عدة في المشرق كالحضر وتدمر وغيرهما وهكذا.
وبسقوط تدمر سنة 273 م، لم يعد للمشرق ثقل سياسي يُعتدُ به وفقدَ بذلك حضوره الحضاري استعداداً لاجتياحات أخرى أبعدته عن جوهره.
الرافعة الاجتماعية كما يُنظر إليها تاريخياً، تكون أحياناً أقوى حضوراً وثقلاً من الواقع السياسي وإدارته، لهذا إن لم يعي السياسي رافعته الاجتماعية فلسوف نلامس حالات انهيار حضاري.