الحرّية هي الحياة وهي شمس الحق التي تضيء النفوس العظيمة مبددةً غياهب اضطراباتها. هي تنقّي العقول الرزينة من الأضاليل الكامنة في سجون أفكارها، فتتعالى على القشور لتتمسّك بالجوهر مشكّلة الدفع للهمم الثائرة في نضالها. كما أنها روح الانبعاث التي تحيي في القلوب العواطف الإنسانية والآمال التوّاقة للعز، موطّدة العزائم بإيمان قارٍ ويقين راسخٍ بحق الإرتقاء إلى حياة أسمى. هي ذاك الشريان المتصبّب الذي يغذي حدة الذهن والابتكار في التفكير الصحيح محرزاً القرار الناضج في الأدمغة الذكية مظهراً قيمها ومُسهِّلاً النجاح لمبادئها في إنشاء المجتمع المثالي.
إن الحريّة تبارك شموخ عزة النفس ذات الوجدان القومي والولاء الوطني الرافضة للإستكانة والاستعباد اللذين يقودان إلى حياة ذليلة، والمناهضة للخضوع لأي قهرٍ أو قيدٍ غير آبهة للجهود المضنية التي ترهق الجسد. سيّما أنها تحضّ الأحرار على التضحية في سبيل صيانة كرامة الوطن ومجده ليتعالى فوق قيود العبودية التي هي قبرٌ أمواته أحياء، حينئذ تنبت روح الوطنية في صدورهم فيدركون أنّ الحريّة هي حريّة صراع المبادئ في سبيل رقيّ المجتمع وإنتصار الوطن. والانتصار لا يكون إلا بالجهاد والصراع “والأمة التي تتنازل عن الصراع تتنازل عن الحرية، لأنّ الحرية صراع!.”[1]
والحرية هي الوجه الآخر للوطنية و”الوطنية قوام الأمم، فبمقدار الوطنية تكون الأمم.”[2] الوطنية هي الشعور بالإنتماء والتفاني لأرض الوطن، وهي الإحساس باللحمة والتعاضد مع أبناء المجتمع. وهي حاجة أساسية لقضية الوجود المرتكزة على جذور عميقة متشبّثة في تراب هذا الوطن، وليست سطحية عابرة تندثر مع هبوب العاصفة. لقد عرف الدكتور يوسف كفروني الإنتماء:
“الإنتماء هو حاجة وجودية للفرد، الذي يكتسب إنسانيته من خلال إنتمائه إلى جماعة. والوجود الإجتماعي يشكل بعداً أساسياً في تكوين شخصية الفرد وليس بعداً مضافاً.”[3]
إن الوطنية هي ينبوع كرامة لا ينضب، فهي رابطة تجمع أبناء الوطن الأوفياء موحّدة أهدافهم وراصّة صفوفهم لنصرة الحق على الباطل. وهي خميرة الشعب التي لم يفسدها الانحطاط بل حولّت خوفه إلى قوة وجبنه إلى شجاعة، فانبثق يرسم مستقبله مواجهاً كل الصعاب المهددة ثبات ركيزته، تقسيم بنيته، تحطيم إرادته، وسلب إستقلاله وحقه في العيش حراً في وطنٍ سيدٍ مستقل. فالوطنية تؤدي إلى تألّق الحرية التي ستبقى شعلة متَّقدة في نفوس أصحابها، وإلى إبادة العبودية الحالكة الدُجى من دروبهم. قال المفكر أنطون سعادة:
“في سبيل الوطنية يهرق الـحر دمه. ومن أجلها يأتي الرجل من الأعمال ما قد يكون مستحيلاً. ويعرّض الشجاع بنفسه لأعظم الـمخاطر. ويلقي الوطني بنفسه بيـن أنياب الـموت باسماً. … لا أمل لأية أمة كانت بالاستقلال والارتقاء إلا عن طريق الوطنية.”[4]
الحرية تغزل خيوط العز لتحيك رايات المجد التي تزيّن حدود الوطن بوشاح الإستقلال.
حقاً ما قاله أنطون سعاده: “الحرية هي الحياة ومن لا ينهض لنيل الحرية خوفاً على حياته خسر الحرية والحياة معاً.”[5]
_______
* الكاتبة زكية سكاف النزق محامية من بلدة عدبل (عكار) اللبنانية، مقيمة منذ عام 1994 في مدينة ملبورن، أستراليا. صدر لها كتاب “ركائز الحياة” عام 2015.
[1] أنطون سعاده، حق الصراع حق التقدم، كل شيء، بيروت، العدد 107، 15/4/1949
[2] أنطون سعاده، الوطنية، الجريدة، سان باولو، العدد 32، 11/6/1921
[3] د. يوسف كفروني، مقالة ” الهوية القومية والإنتماء” https://www.ssnp.info/index.php?article=67682
[4] أنطون سعاده، مقالة “الوطنية”، الـجريدة، سان باولو، العدد 32، 1921/6/11
[5] أنطون سعاده، استقلال مراكش الإسبانية، المجلة، سان باولو، السنة 11، الجزء 2، 01/3/1925.
زكية سكاف النزق