القوة التي صنعت قرار لاهاي

هكذا استطاعت القوة أن تنتزع الحق، وأن تكون قولاً فصلاً في استعادة الحقوق وإعادة معايير العدالة.
هي العين التي قاومت المخرز، وهو الدم الذي أعاد للحق سلطانه. هو صبر الفلسطينيين في أرضهم رغم الوجع والدم المهدور والدمار ونزع سبل الحياة عنهم، منذ نحو أربعة أشهر، مذ أعلنت عملية طوفان الأقصى، ولم تنته بعد تداعيات ما اصطلح على تسميته “ردة الفعل” والتي لم تؤد بعد بدولة الاحتلال إلى استعادة أسراها مقابل مطلب إفراغ السجون بالتبادل إلى الآن. ولا أنجزت شيئاً من أهدافها العالية السقوف، فيما لا تزال آلة القتل والإبادة المشهودة للفلسطينيين تجري والعداد يضاعف الألوف بعدما بلغ نحو الثلاثين ألفاً من الشهداء، معظمهم من النساء والأطفال. ولا زالت عين العالم تراقب من خلال وسائل التواصل، وما تيسره أو تسمح به وسائل الاعلام، لفظاعة ما يرتكبه من نعتوا الفلسطينيين “بالحيوانات”.
لقد جاء قرار الإدانة اليوم من قبل محكمة العدل الدولية، والذي اعتبره البعض انه بحده الأدنى، نظرا لوضعية المعركة بين دولة ومنظمة وليس دولة أخرى. فجاء القرار بمهلة، لكن أهميته أنه فرض على دولة تعتبر نفسها فوق القانون، ومن أعلى جهة حقوقية جنائية. وبناء على الشكوى المقدمة من دولة جنوب أفريقيا، الدولة المنتصرة على نظام “الأبارتيد” العنصري والمتحررة من قبضة الاستعمار وارتكاباته وسجونه ومقتديه بسيرة ٍ بطلها نلسون مانديلا، الذي بات علامة فارقة في التاريخ المعاصر.
والحقيقة أن هذه الإدانة التي تأخرت نحو خمسة وسبعين عاماً وأكثر، أي قبل أن تضع الجمعية العامة للأمم المتحدة اللبنة الأساس لتأسيس دولة الاحتلال بموجب قرار أممي صدر آنذاك، بعدما هجرت وقتلت طويلاً واستمرت دون محاسبة أو ردع.
القرار صدر وسط ترقب كبير من دولة العدو وكذلك الولايات المتحدة، الذين بذلا جهوداً كبيرة لعدم صدوره، أعطى دولة الاحتلال مهلة شهر لوقف جرائمها وارتكاباتها قبل أن ترفع الإدانة الجماعية إلى مجلس الأمن لاتخاذ قرار ملزم. ويتوقع هنا عدم تجرؤ الولايات المتحدة الأميركية على الفيتو، بل ربما تلجأ إلى رفض التصويت، وفي هذه الاثناء ستجعل الإدانة من دولة جنوب افريقيا مراقباً على سلوك دولة الاحتلال حيال الاتهام لها بالإبادة الجماعية الجارية، أن فعلياً من خلال التعنت “الإسرائيلي” المستمر بموقف علني لنتنياهو، وإذا ردعه أحد سيكون مداورة باستمرار قطع سبل ومستلزمات الحياة.
إن الدول التي استطاعت بتواطؤ فاضح، أن تغض النظر عن كل ممارسات الاحتلال داخل فلسطين وفي منطقتي الضفة والقطاع على السواء، بعدما حولتهما الى سجن مفتوح. هذا عدا واقع الحياة وإفراغ البيوت ووهبها لمستوطنين جدد وتفنن في القتل والسجن والموت، عدا الممارسات العنصرية دينياً ضد المسلمين والمسيحيين على السواء، ثم جولات القتال المتباعدة في مخيمات ومدن الضفة أو غزة المحاصرة والصامدة، وكانت إسرائيل دوماً فوق القانون وفوق المحاسبة مستظلة حماية ” الفيتو الأميركي” بما يملكه من أحادية القطب في العالم والذي غطاها مراراً ومنع محاسبتها طويلاً.
اليوم بانتزاع فلسطين هذا الانتصار لهذه المعركة الدولية، وللانتصارات التي تؤكدها المعركة العسكرية على جيش العدو الغارق في وحل تدميره لغزة وفي ما تقدمه للمعركة من انتصارات كل قوى المقاومة الملتفة حول فلسطين، مساندة وإشغالا لألوية عديدة من جيشها، إن من جنوب لبنان أو الجولان أو العراق وكذلك اليمن في حصارها البحري لخط إمداد هذا العدو. كل ذلك يؤكد أن صراعنا الوجودي مع هذا العدو الغاصب قائم، وها هي أمتنا تخوضه متخطية الحدود المرسومة من استعمار قسم البلاد بالأمس، وها هو يخطط اليوم لعودة الهيمنة السياسية والاقتصادية وكذلك السيطرة على ممرات التجارة الجديدة التي تربط العالم من أقصاه إلى أقصاه، وكذلك بهدف السيطرة على مشاريع اكتشاف منابع الثروات في باطن الأرض وظاهرها براً وبحراً.
هذا الصراع هو بداية تحول في المنطقة وتصنعه إرادة المقاومة وقرار الوحدة لا غير وهو يؤكد حق أمتنا بالحياة والتحرر إزاء الاحتلالات والمؤامرات، التي تراهن على كسرنا مرة بالحروب وأخرى بالخنوع والاستسلام والتطبيع السياسي والثقافي مع عدو وجودي بقصد تثبيت سبل الضعف والشقاق، مقابل حقوقنا بوحدة وقوة وموارد أمتنا وما تكلفه من حياة كريمة لأجيالنا وشبابنا وحقهم في الرفاهية وما ستجلبه من تطور لبلادنا.
علماً أن الداعمين لهذا الكيان لن يتوقفوا بسهولة عن دعم ربيبتهم، وما قرار وقف الدعم المالي لمنظمة ” الأونروا ” من الدول الاستعمارية نفسها (اميركا – بريطانيا – فرنسا – كندا) إلا نقطة سوداء توضع مجدداً على صفحة هذه الدول، غير العابئة لا يجوع أو موت الناس والتي تستدعي مزيداً من تعزيز المطالبة الشعبية العالمية، لكشف دور هذه الدول واسقاطها من الوجدان الإنساني وإجراء مزيد من الضغط على سياسة جديدة من الإبادة بالجوع والمرض.

رئيسة التحرير الأمينة كوكب معلوف