إعتبر أنطون سعاده أنه لا يمكننا أن نعرف الحياة إلا على الأرض، لأن وجود الأرض (الماء واليابسة) شرط أساسي لوجود الحياة، ووجود البر أيضاً هو شرط أساسي لوجود الحيوانات البرية، وبالتالي لا يمكننا أن نتصور حياةً شبيهةً بحياتنا وكائنات حيةً شبيهةً بكائناتنا الحيّة إلا على أرض شبيهة بأرضنا، ومن هنا ندرك أن الأرض هي شرط أولي لوجود النوع الإنساني وبقائه، فحاجة كل كائن حي أي الماء والغذاء مصدرهما الأرض إضافة إلى الحرارة والبرودة ومعدل الأكسجين.
تختلف علاقة الطبيعة بالإنسان عن علاقتها بالنبات والحيوان، فالعلاقة الأولى هي علاقة مزدوجة، بينما العلاقة الثانية فهي مفردة أو وحيدة الطرف، فالأرض تعد حاجة النبات والحيوان الحيوية وليس لأحدهما عمل مقصود لتكييف الأرض وإعداد مقومات الحياة، فالحيوان لا يعرف إلا سد الحاجة مباشرةً أو جمع الغذاء، كذلك فإذا وجد في بيئة ما يسد حاجته مباشرةً بقي فيها وإلا انتقل إلى غيرها، أما علاقة الطبيعة بالإنسان فتختلف، فبيئة الإنسان الطبيعية هي التي تمده بالمواد الخام اللازمة له لسد حاجاته، ومن ناحية ثانية تشهد سعيه لبلوغ أربه مداورة ، وهكذا نرى أن امتياز الإنسان على الحيوان في سد حاجته مداورةً من خلال إعداد أدوات الصيد والقتال والبناء جعل علاقته بالأرض أمتن من علاقة سائر الكائنات الحية بها، وهو يستطيع معالجتها مباشرةً، فحيث لا نبات صالح لغذائه يحفر في الأرض وينقب ويزرع، وحيث بعض الحبوب والنباتات لا تصلح لتناولها نيئة يعمد الإنسان إلى معالجتها بالطبخ والشيّ، ومن هنا ندرك أن الأرض تكيّف الإنسان وهو يعود ويكيّفها، وهذه العلاقة ساعدت الإنسان على التفوق على بقية الحيوانات في تنازع البقاء.
الإنسان يكيّف الأرض، ولكن هذا التكييف وأشكاله تتحكم به الأرض حسب بيئاتها الإقليمية، ويكون مضطراً لتكييف حاجاته حسب خصائص الأرض المقيم فيها، ولكل بيئة من هذه البيئات خصائص تتميز عن خصائص البيئة الأخرى، والتي تعين وجهة تقدم الإنسان في سد حاجاته ومدى مدنيته، والبيئة هامة لتقدم الإنسان بقدر ما هي الأرض هامة لحياته، فمن جميع المواد التي يتطلبها الإنسان لحياته لا توجد مادة واحدة تمد الطبيعة بها إمداداً مستمراً في كل مكان بشكل يسد حاجة الحياة مباشرةً أو مداورة، وتقسيم الأرض إلى بيئات يؤدي إلى توزع النوع البشري إلى جماعات، فالبيئة تحدد الجماعة، لأن لكل بيئة جغرافيتها وخصائصها، فالسهل المنبسط الذي يكون في درجة واحدة من الحرارة والرطوبة، سيكون بالضرورة خالياً من الحدود الجغرافية من صحارى وجبال وأنهار وبحار، من البديهي أن يؤدي إلى إنشاء جماعة واحدة كبيرة، لكن مع وجود الحدود الجغرافية الطبيعية سيصبح انتشار الإنسان في الأرض موافقاً للبيئات الجغرافية.
تحدد البيئة الجماعة من خلال عدة وجوه، كحدود الإقليم الجغرافية، طبيعة الإقليم (نوع التربة، معدل الحرارة والرطوبة)، شكل سطح الإقليم (سهول، جبال، أنهار…)، فالحدود الجغرافية تضمن وحدة الجماعة، لأنها تجمعها ضمنها، وتكون العامل الأول في المحافظة عليها، لأنها الحصون الطبيعية في وجه الغزوات.
إن أهم عامل في تكوين شخصية الجماعة هي البيئة، بسبب الارتباط الوثيق المولّد حق الوراثة واستمرار التشابه الشكلي، إن تأثير امتلاك أرض أو عقار في شخصية الممتلك شديد جداً، بل إن الأرض أو العقار جزء من شخصيته، فهو يتحكم في طريقة معاشه، ومرتبته ونوع حياته، فإذا استمر العقار في العائلة بحكم الوراثة صار جزءاً من شخصية العائلة، به يثبت مركزها ويحفظ مقامها، وربما يكون الملك أهم من الشخص المالك، لأن الشخص زائل والملك باقٍ على التوارث، فالرجل الذي يملك أرضاً زراعية، تكفيه وتكفي عائلته، كانت شخصيته ورتبته الاجتماعية موقوفتين على ما يملك حتى إذا زال من يديه تغيرت شخصيته ورتبته.
لا يمكن نشوء جماعة زراعية حضرية في الصحراء، بينما الوادي الخصيب يدفع الجماعة إلى الفلاحة والزراعة، وهذه الحقيقة خير برهان على أهمية الأرض الأساسية في تمييز الجماعات البشرية، ولكن لا بد للأرض من جماعة مؤهلة للاستفادة منها، وفي حال كانت الأرض خصبة والجماعة البشرية عديمة الخبرة في الأرض لم ينشأ عمران، وهكذا ندرك أن الطبيعة والجغرافية هما الطبقة الداخلية في تاريخ حياة الإنسان، إن التاريخ غير مكتوب في طبيعة الأرض، مع أن الأرض هي أحد الافتراضات التي لا بد منها لنشوء التاريخ، والعوامل الفاصلة في حياة البشر وتطورها هي العوامل النفسية والفردية، التي مع أنها تتأثر كثيراً بعامل البيئة، إما أن تستفيد من القاعدة الطبيعية، شأن الجماعات الراقية، وإما أن تهملها حسب استعدادها وإرادتها.
أخيراً يمكننا أن نستخرج قاعدة من هذا البحث وهي أن لا بشر حيث لا أرض ولا جماعة حيث لا بيئة ولا تاريخ حيث لا جماعة.
محمد جميل عليان