يصرّ البعض، ممن التبست عليهم المفاهيم، على الكلام عن ثقافة الموت عبر حشر الاستشهاد في خانته، بلا تعمق تاريخي ولا تصوري ولا مقاربة أخلاقية. والاستشهاد كأي ظاهرة لها سياقها التاريخي ورمزيتها وفهمها العميق وبعدها الوجداني الأخلاقي ودورها الوظيفي في التماسك الاجتماعي والعاطفي الوجداني يجدر التعامل معها بمنتهى الدقة والانتباه. فأي قفز فوق كل هذه الاعتبارات تجعلنا نرى هذا الحشر من باب الأيديولوجيا، أو باب السطحية الفكرية و بكل الاحوال في سياق فوضى المفاهيم و المفردات السائدة. إن الاستشهاد في عمقه هو من ثقافة التضحية، ولعل أرقاها هي تضحية الفرد في سبيل الجماعة، وحصراً في سبيل حياة الجماعة .الاستشهاد ليس انتحاراً مطلقاً. الاستشهاد يندرج في سياق قضية ما. ونبل القضايا يرفع من مرتبة الاستشهاد فيجعله نبيلاً وساميًا.
وليس صحيحاً أن هناك ثقافة موت لدى أي شعب من الشعوب ولا عبر التاريخ. الإنسان مطبوع على الحياة، وإذا كان هناك موت واحد فإنه العدمية التي أخرجت الإنسان من الحياة وجردته من إنسانية نسفت غايته في الوجود وجعلت منه عدماً، هي ربما الحالة الوحيدة التي سادت فيها ثقافة الموت وتمظهر وترسخت في افكار فلسفية. منذ تاريخنا القديم واذا عدنا إلى أساطيرنا، تظهر بشكل واضح أن الموت كان مرحلة من مراحل الحياة، دورة تجددية، محطة من محطات الحياة المتجددة، وعليه بعد الموت الحياة حكما، وبعد الجدب الخصب، وبعد القحط المطر. ومن الأمثلة الكثيرة ان انتقام حبيبة بعل عنات من الإله موت بالحربة، وتقطيعه وغربلته وشيه بالنار وطحنه بالرحى ونثر بقاياه فوق الحقول لتأكله العصافير، فيعود بعل إلى الحياة ومعه مظاهر الخصب، إلا إشارة إلى الأرض ومواسمها زراعةً وحصادا يتوالى فيها الموت و الحياة. فشعائر الموت ورموزه ومعتقداته واحتفالاته ،كانت دائما بانتظار طقوس وش ائر الحياة التي تيد الدورة من جديد.
في عمق فلسفة التضحية، كان الفرد يضحي بإبنه البكر في سبيل حياة الجماعة لأن في استرضاء اله انقاذا للجماعة ، وبعدها قام الإله بدوره بالتضحية بابنه البكر في سبيل خلاص البشر. وهذا المفهوم عاد ليظهر مع المسيحية. فهو ابن الإله الذي يضحي بنفسه في سبيل البشرية. و يتوجها بعبارته ليس من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل غيره وقد تكرس مفهوم وطئ الموت بالموت.
وإذا كان الموت يرافقه الحزن و البكاء والنحيب، فالاستشهاد يرافقه الفرح والتبريك و الزغردة, ويقول الروائي إبراهيم نصرالله: الذي يجبرنا على أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم، نزغرد حتى لا نجعله يحس لحظة أنه هزمنا، وإن عشنا سأذكرك أننا سنبكي كثيرا بعد أن نتحرر.
واذا كانت الحياة والموت تصورات، فإن تصور الحياة ارتقى كثيرا منذ نشوئه، فالحي ليس الذي يحكمه البيولوجي ومظاهره، الحي هو الذي ارتقت ثقافة نظامه المناقبي الروحي، انه ارتقاء في فهم الوجود والغاية منه ودور الإنسان فيه.
فالتصور البيولوجي للحياة جعلها عيشا بحت، ومن هنا فان التمييز بين درجات الحياة ومراتبها واجب ولذلك في أسفلها يقع العيش. انه الاقتصار على الحاجات البيولوجية. لم يطل ألامر بأوروبا ان اختلت نظرتها فأطلقت النار على الحياة، فمات آلإله، وماتت الحضارة، ومات الدين، ومات الوجود نفسه. ودخلت في موت سريري. ان حياة بلا غاية، ووجودا بلا معنى هو الموت بذاته.
ثم يعود داروين ليعيد آلإنسان إلى مرتبة حيوانية، بعد أن رفعته المركزية الأوروبية إلى درجة شبيهة بالألوهة. خاصة وأن علم تصنيف الكائنات الحياة قد وضعه في المملكة الحيوانية وفي رتبة متدنية. لذلك فان الحياة مرتبطة بتصورنا لمعنى وجودنا ودورنا فيها، ان موقعا مختلا، سيقود إلى مفهوم مختل حكما. أما موقعا راقيا ودورا راقيا فانه يأخذ على عاتقه تجويد الحياة و تحسينها و ترقية فضائلها وهو في عمق الإشكال المفاهيمي للحياة. الاستشهاد في عمقه فعل تضحية ، والتضحية فعل أخلاقي بامتياز. ان الشهيد الذي يقضي في الدفاع عن أرضه أو عرضه أو أي قضية، ليس ابنا لثقافة الموت ولا يحمل هويتها ،هو ابن الحياة وريعانها وله عائلة يحلم ان تكبر في كنفه، انه بذل راقي و مناقبي. ان الاستشهادي الذي يقدم و بكامل وعيه وارادته و اندفاعه على تقديم هذه التضحية وتحمل نتائجها وصولا حتى موته الجسدي و أرقى من ذلك ان يكون قراره استشهاديا وهذا أرقى أشكال البذل. لقد مضت الفلسفة أبعد من التمييز بين المَيِّت والحي لتصوغ مفهوم جدارة الحياة وبالتالي جدارة الموت. وهنا يحصل الاشتباك الفكري، خاصة و أن بعض الفلسفات الجامحة كالفلسفة النازية مضت في هذا المفهوم إلى صياغة تصنيف هرمي للجديرين بالحياة على أساس راقي و مضت في تصفية من لم تره جديرا بالحياة إلى تيار تحسين السلالة الآرية و تأصيلها.
نم تحت هذا العنوان كنا أمام داروينية جديدة و لكن على قاعدة سلالية بحت. إنها جرائم تحت عنوان جدارة الحياة. لذلك ان جدارة الحياة تصوغها ألحياة وعلى القواعد الثقافية الأخلاقية، في سبيل مصالحها وأولها مصيرها وحياته.
إذا إن الحياة واحدة منذ نشوئها الموغل في القدم، إلا أن حصول تطور وارتقاء في فهمنا لمضامينها وحصول الارتقاء النفسي الأخلاقي هو أساس التباين الذي نراه.
كلما ارتقت المقاييس وارتقت النظرة، إرتقى النموذج والعكس صحيح.
أختم لأقول ان من ارفع المفاهيم و التصورات للحياة هي التي صاغها سعاده:
• قد تسقط أجسادنا ، اما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود.
•صرنا جماعة تعشق الموت متى كان طريقا للحياة .
•إن الحياة الإنسانية بلا مبادئ يتمسك بها الإنسان، ويبني بها شخصه ومعنى وجوده، هي باطلة.
•و يتوجها بتصوره للحياة بأجمل صياغة :”ان الحياة وقفة عز فقط”.