روسيا والصين مجددا يمسكان بزمام الساحة الدولية

روسيا والصين مجددا يمسكان بزمام الساحة الدولية

لا شكّ في أنّ حرب إسرائيل على غزّة قد أنهكت العالم إنسانيًّا قبل أن تنهكه سياسيًّا، أو اقتصاديًّا… إنّها حرب أثبتت، وأكّدت بالتّجربة والبرهان وهن المنظومة الأخلاقيّة العالميّة، كما أثبتت ارتهان جلّ هذا العالم إلى قوى لا تُدرِك من الإنسانيّة ذرّة تجعلها تقف في مصاف البشر.
عالم عربي غاضب لكنّه صامت ما خلا بعض الأصوات، وبعض المساندة من اليمن وجنوب لبنان، وعالم غربي تصرخ شعوبه لكنّها لا تفعل شيئًا لتغيير الواقع، ويجهد سياسيّوه لتزويد إسرائيل بالدّعم اللازم لمتابعة المجزرة المستمرّة..
فيما الوضع الرّاهن هو أنّ المقاومة الفلسطينية مستمرّة رغم كلّ شيء، وإسرائيل كذلك مستمرّة رغم صمود المقاومة، ورغم عدم قدرتها على تحقيق نصرها الحاسم الذي تعلنه هدفًا، فيما يبدو من خلال أدائها أنّ المجزرة التي ترتكبها هي بحدّ ذاتها هدف تحقّقه في كلّ لحظة.
لن تتراجع المقاومة الفلسطينية لأنّ في تراجعها قضاء على قضيّة شعب صامد، ولأنّ إسرائيل لن ترضى بأقلّ من تهجير الشّعب الفلسطيني من أرضه ودفعه إلى شتات آخر بعد أن ذاق مرارة شتات 1948، ولن تتراجع إسرائيل لأنّ في تراجعها انتهاءً لدورها وانهزامًا لكيانها، ولن يتراجع الغرب عن دعمها لأنّ الأحداث أثبتت أنّ المشروع الإسرائيلي هو في عمقه مشروع غربي يشكّل العمود الفقري لاستعمار من نوع آخر، وأنّ هذا الغرب لا يريد لهذا المشروع أن ينهزم… ربطت إسرائيل بقاءها بفناء شعب غزّة، وربط الغرب استمرار رفاهيته ببقاء إسرائيل: معادلة صعبة سالت لأجلها دماء الإنسانيّة وسقطت في خضمّها حقوق الإنسان، وحماية الطّفل، والمرأة، والمساواة… سقط كلّ ما هو إنساني ليقف العالم وجهًا لوجه أمام كلّ هذا الظّلم وكلّ هذا التّوحّش..
ويبقى السؤال من القادر على إيقاف كلّ ذلك، هل من دولة قادرة على لعب دور الوسيط لإيقاف المقتَلة؟؟ وفي ظلّ انتهاء دور الولايات المتّحدة كوسيط هل تقدر روسيا والصّين على تأدية دور كهذا؟؟
في هذا الإطارأكد مصدر روسي رفيع المستوى أن روسيا والصّين سيكون لهم دور كبير في انهاء الحرب في غزة. وفي هذا المسار نرى بعض التّحرّكات الروسية، على سبيل المثال الاتّصال الهاتفي للرئيس الروسي فلاديمير  فلاديميروفيتش بوتين مع رئيس السّلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس في الاسبوع الثالث من شهر كانون الأول، حيث تعهّد الرئيس الروسي بمواصلة تزويد قطاع غزة بالمساعدات الإنسانية، داعيًا إلى حل سلمي للقتال بين إسرائيل وحركة حماس.
وقال بوتين لعباس، بحسب بيان صادر عن الكرملين، إنّ “روسيا ستواصل تزويد قطاع غزة بالسلع الأساسية، بما في ذلك الأدوية والمعدات الطبية، كما أنّها تشجّع على استئناف العملية السياسية”.
كذلك دعا بوتين إلى: “استئناف عملية السلام لإقامة دولة فلسطينية على خطوط ما قبل عام 1967.” وجاء في البيان الروسي: “في هذا السياق، أعرب الجانب الروسي عن دعمه للجهود التي تبذلها القيادة الفلسطينية بقيادة محمود عباس”.
وبطبيعة الحال فإنّ إسرائيل عارضت بشدّة هذه الجهود، ليصرّح رئيس وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو بأنّه لن”يسمح لغزّة بأن تصبح فتحستان” غامزًا في ذلك من قناة محمود عبّاس، هذا مع العلم أنّ هذا التّصريح يتعارض مع ما تعلنه الولايات المتّحدة من دعم لحلّ الدّولتين بعد الحرب وإيكال مهمّة قيادة الضّفّة الغربيّة وغزّة معًا لمحمود عباس أو من ينوب عنه، بعد أن ترضخ رام الله لجملة “إصلاحات” مطلوبة أميركيًّا وبطبيعة الحال إسرائيليًّا.
وبعد هذا الاتّصال بين بوتين ومحمود عباس أصدرت السّلطة الفلسطينيّة بيانًا جاء فيه أنّ عبّاس أكد على أنه “لا يمكن تحقيق السلام ّوالأمن إلا من خلال تنفيذ حلّ الدولتين على أساس خطوط ما قبل عام 1967”.
كذلك فقد أكّدت السّلطة الفلسطينيّة في بيانها على “أهمية المساعدة الإنسانية السريعة، مع شكر بوتين على هذه المساعدات الرّوسيّة والتي من ضمنها إنشاء موسكو لمستشفى ميداني في القطاع.”
وكانت روسيا قد نقلت جوًّا أكثر من 85 طنا من المساعدات إلى مصر، لتسليمها إلى غزة الشهر الماضي.
وفوق هذا وذاك فقد كان بوتين، منذ بداية حرب غزّة، حريصًا على المجاهرة بتعاطفه مع الجانب الفلسطيني رغم أنّه لم يكسر الجرّة مع الجانب الإسرائيلي، مقابل موقف الولايات المتّحدة المنحاز بشدّة إلى إسرائيل، وقد وصف بوتين الوضع في قطاع غزة بأنه “كارثة تتكشف على نطاق لا يمكن مقارنته بالصّراع في أوكرانيا”.
وقد عبّر عن ذلك في مؤتمر صحفي قائلاً: “الجميع هنا وفي جميع أنحاء العالم يمكنهم أن يروا وينظروا إلى العملية العسكرية الخاصة وما يحدث في غزة ويشعروا بالفرق”. وأضاف: “لكن لا يوجد شيء مثل هذا في أوكرانيا”.
بالنّسبة للصّين فقد وقفت تجاه الصّراع في غزّة في منزلة بين المنزلتين، مكتفية بالحثّ على وقف إطلاق النّار، هي لم تقدّم الدّعم للجانب الإسرائيلي لكنّها لم تجاهر بإدانته، كما أنّها لم تدن الجانب الفلسطيني، ولم تدعمه، وقد صرّح النّاطق الثاني باسم وزارة الخارجيّة “وانغ ون بين: “تولي الصين اهتمامًا وثيقًا لتصعيد التّوتّرات بين فلسطين وإسرائيل، وتحثّ جميع الأطراف المعنيّة على وقف إطلاق النّار فورًا، وستحافظ الصّين على الاتّصالات مع كلّ الأطراف وستواصل العمل من أجل السّلام والاستقرار في الشّرق الأوسط.”

وأضاف في هذا الإطار: “إنّ السّبب الرّئيسي لتكرار الأحداث هو انحراف عمليّة السّلام في الشّرق الأوسط عن المسار الصّحيح وتآكل أساس حلّ الدّولتين، وعدم متابعة قرارات الأمم المتّحدة ذات الصّلة.”

وعلى الرّغم من أنّ الدّور الّذي تقوم به الصّين في فلسطين لا يرقى إلى مستوى دولة عظمى إذ لم تصدر عنها أية إدانة للضوء الأخضر الغربي الممنوح لإسرائيل لإبادة الشّعب الفلسطيني إلاّ أنّ موقفها بقي أفضل من موقف الغرب المجاهر بالعداء للقضيّة الفلسطينيّة والمشارك بشكل أو بآخر في الإبادة الجماعيّة للشّعب الفلسطيني..
وبناء عليه فإنّ الصّين وروسيا تبقيان الدّولتين العظميين الوحيدتين القادرتين على حمل العصا من الوسط، وبالتّالي مخاطبة جميع الأطراف فيما لو أتاحت مجريات الأحداث العمل من أجل الوصول إلى وقف لإطلاق النّار، وفي ظلّ انتهاء الغرب، تحت القيادة الأميركيّة، كوسيط يمكن إيلائه دورًا فاعلاً لإنهاء المذبحة.
نفتتح عامًا جديدًا وهناك شعب يُباد، وقضيّة إنسانيّة تُذبَح بسيف المصالح الدّوليّة ومع ذلك فإنّ الأمل يبقى قائمًا بأن يكون وراء الأكمة ما يتيح إنقاذًا لما تبقّى من الشّعب ومن القضيّة وعسى أن ينجح المسعى الروسي-الصيني بانهاء حرب الابادة في غزة..