وعد بلفور..

1- المسودات المنسية!!

    يعتقد بعض الكتّاب والمؤرخين العرب، الذين لا يزالون على قناعة ما بأن بريطانيا ليست شراً مطلقاً فيما يخص قضايانا العربية، وأنها تعرضت لأذی العصابات اليهودية أكثر من مرة، يعتقدون أن وعد بلفور نفسه مر بمراحل عسيرة بدلالة الصراعات الخفية داخل الإدارة البريطانية نفسها.

    صحيح أن وزارة الخارجية البريطانية لم تكن على وفاق تام مع وزارة المستعمرات، وقد تكون سبباً في خسارة النفط السعودي الذي ذهب إلى الولايات المتحدة، مبكراً.. إلا أن المسألة فيما يخص القضية الفلسطينية كانت موضع إتفاق وكانت المصالح البريطانية بين قناة السويس وطريق شركة الهند الشرقية أكبر من كل خلافات داخلية، فقد صدرت المسودة الأولى للتصريح البريطاني حول إقامة كيان لليهود في فلسطين في 18/8/1917 بالصيغة التالية: “تقبل حكومة صاحب الجلالة المبدأ القائل بوجوب إعادة قيام فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي.. وستبذل حكومة جلالته كل جهودها لتحقيق هذه الغاية، وستكون مستعدة لتلقي أية ملاحظات من المنظمة الصهيونية…”.

    وصدرت المسودة الثانية بإسم تصریح ملنر في الشهر نفسه مع تعديل أقل حسماً، جاء فيه “تقبل حكومة صاحب الجلالة المبدأ القائل بوجوب إقرار أية فرصة لإقامة الوطن القومي للشعب اليهودي في فلسطين… الخ”.

    وصدرت المسودة الثالثة باسم بلفور بالعودة إلى المسودة الأولى.

    وعادت صيغة ملنر للظهور ثانية في شهر تشرين أول من عام 1917 مع تعديل جديد “تنظر حكومة صاحب جلالة الملك بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للجنس اليهودي، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية للطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق السياسية لليهود في أي بلد آخر يتمتعون فيه بجنسيته.. وتكرست هذه الصيغة في مشروع 31/10 ثم في وعد بلفور 2/11 بعد إستبدال الجنس اليهودي بالشعب اليهودی.

    ويُلاحظ من التصريحات المذكورة ما يلي:

– أنها تمت في غضون شهرين لا أكثر لا في “مراحل”.

–  أنها لم تكن عسيرة، فجميعها أكدت على ما أسمته بالوطن القومي لليهود في فلسطين كما تعاملت مع اليهود كشعب وليس كطائفة.

–  أنها أكدت على أن هذا الوطن القومي المزعوم لا ينتقص مما أسمته بالحقوق السياسية وليس المدنية فقط، لليهود حيث يعيشون مما يدحض أن الوعد كان جزءاً من سياسة إقصاء لليهود في البلدان الأوروبية.

2- على طريق الوعد ،كيف حضّر اليهود لمؤتمر فرساي

كان مؤتمر فرساي 27/6/1919، أول مؤتمر دولي لتقاسم العالم بين الدول الإستعمارية المنتصرة، وقد حضّرت الحركة الصهيونية أوراقها ومشاريعها لهذا المؤتمر عبر عشرات المبادرات والخطط والكولسات، فيما كان العرب سائرين في غيهم، مكتفين بالرهان على بريطانيا وفرنسا، رغم أن ثورة أكتوبر الإشتراكية كشفت المخططات الفرنسية – البريطانية لتقسيم الشرق العربي عبر كيانات تحت الوصاية تحضيراً لتمرير وعد بلفور.

    وقد قام وزير خارجية ثورة أكتوبر الإشتراكية، تروتسكي بنشر المخططات المذكورة في الصحف الروسية (برافدا، وازفستيا) بتاريخ 23/11/1917 وفق ما ذكره كتاب اسعد رزوق (اسرائيل الكبرى ص 270 و 362 و 363).

    أما اليهود فقد حضروا لمشاركتهم في المؤتمر عبر أكثر من خطوة منها:

– اعداد مذكرة تطالب المؤتمر بتسليم فلسطين لبريطانيا مقدمة لتمرير وعد بلفور، وكانت بريطانيا قد سوّقت نفسها كحامية لليهود  منذ تصدع الأمبراطورية العثمانية، وإصدارها نظام المِلل والنِحل الذي يسمح للقناصل الأجانب بفرض الحماية على (مواطنين عثمانيين ) بوصفهم رعايا لها، فرنسا على الكاثوليك، روسيا على الأرثوذكس، وعندما لم تجد بريطانيا ما يكفي من البروتستنت قدمت نفسها حامية لليهود بعد أن حاولت فترة من الزمن مع الدروز، ولا سيما خلال الحرب الاهلية في لبنان 1860 وصولاً إلى المتصرفية.

    وإنطلاقاً من ذلك ركزت بريطانيا على القدس، وجلب اليهود إليها حتى أن الملكة فكتوريا عندما أصدرت مرسوم مطرانية القدس أرسلت قساً متهوداً لادارتها (من كتاب رؤوف ابو جابر الوجود المسيحي في القدس).

– اعداد مذكرة تدعو لضم شرق الاردن وأجزاء من سورية ولبنان إلى منطقة الإنتداب البريطاني على فلسطين، وهو الأمر الذي نجحت فيه فيما يخص شرق الاردن في مؤتمر سان ريمو وإعلان صك الانتداب.

    فبعد غزو فرنسا لسورية 1920 وإسقاط أول دولة في سورية الطبيعية (تضم سورية الحالية ولبنان وفلسطين والأردن) وحل الجيش السوري الوطني، ووقف العمل بأرقى وأحدث دستور في حينه، وإلغاء العلم الذي يرمز إلى وحدة سورية وعروبتها (العلم الاردني الحالي)، وفرض دستور طائفي يشبه دستور بريمر وإشتقاق علم منه (العلم الذي ترفعه المعارضة السورية)، عيّن مؤتمر سان ريمو فرنسا وصية على سورية وأقرّ صك الإنتداب بريطانيا على فلسطين 1922 والذي يشمل شرق الأردن، مع إعطاء حق للمندوب السامي بحسب المادة 25 بإرجاء أو توقيف ماتراه من النصوص غير قابل للتطبيق على المنطقة الواقعة ما بين نهر الاردن، والحد الشرقي (فلسطين) ، (اسعد رزوق ، مرجع سابق، ص 453/454).

– تدريب آلاف اليهود على العمل العسكري وإستخدام السلاح من خلال تشكيل فيلق يهودي تمركز شرق الاردن خلال العمليات الحربية في الحرب العالمية الأولى، وبحسب الميجور جيمس روتشيلد، المسؤول (ألبريطاني) عن أعمال التجنيد آنذاك، فقد كان من أهداف الفيلق إشراك اليهود في (تحرير) المنطقة ومنحهم بالتالي الحق في الإستيطان فيها.(المرجع السابق ص 373،376)

– خداع الشريف حسين وأنجاله لتغطية مطالب الحركة الصهيونية في مؤتمر فرساي، بل إن بريطانيا لعبت دوراً خطيراً في ذلك عندما شجعت الأمير فيصل على التفاهم مع وايزمان قبل المؤتمر، وعندما أوحت للشريف حسين بأن وعد بلفور لا يتناقض مع آمال العرب في الاستقلال، وبحسب جورج هورغات، رئيس مكتب الجواسيس الإنجليز في القاهرة المعروف  بـ المكتب العربي، فقد إنتزعت من الشريف موقفاً لا يعارض وعد بلفور (المرجع السابق ص366/367) .

– ترتيب الحركة الصهيونية  لمؤتمرين في الوقت نفسه 18/12/1918:الأول في فيلادلفيا في الولايات المتحدة، والثاني في يافا بحماية قوات الإستعمار البريطاني.

د. موفق محادين