ميلاد هذا العام في بيت لحم صامت حزين دون إضاءة ولا شجرة مزينة … لا فرح ولا زيارة حجاج أو احتفالات وقداديس، يحاصرها العدو بأسواره العالية كما كل عام، وبطغيانه وجيوشه. هذا العام على غزة وكل فلسطين.
مزود الطفل يسوع في كنائس كل فلسطين، تحيطه حجارة الدمار الذي يعم غزة كلها.
إنه الركام فوق الجرائم والقتل والإبادة بأدوات الحرب المدعومة من إمبريالية مدمرة، طامعة تبرر لنفسها عدم الرحمة، وابتلاع كل المعايير الإنسانية الرادعة، وكذلك القوانين “بفيتو ” غب الطلب جاهز على أي قرار اممي بوقف الحرب وبوقف إطلاق النار، رغم صراخ الشعوب في كل العالم أن أوقفوا الحرب ولا أحد يسمع من الدول العظمى التي تعتبر نفسها ناظمة هذا العالم. وهكذا تزداد قبضة العدو شدة وتدميراً وقسوة بعد فشله الذريع في تحقيق أية إنجازات وأهداف وضعها هدفاً له.
صلاة بيت لحم وكل كنائس فلسطين هي وجع يستعيد عويل الأمهات الموجوعة، فلا فرح بولادة رسول المحبة والسلام، ولا أناشيد تهتف. وقد دأبت فلسطين على ظلم الاحتلال وطغيان منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، وجاءت ثورتها في عملية طوفان الأقصى، إشارة للعالم إلى الظلم والى السجن الذي تعيشه، آن له ان ينتهي وسط أجواء من التجاهل. قضية لا مثيل لظلمها في التاريخ الحديث، بعدما زالت كل حالات الاستعمار التي تتيح للدول العظمى المهيمنة على أرض وموارد وثروات الشعوب. وكذلك، منع تنفيذ القوانين الدولية الرادعة لأية عنصرية تلحق بأي شعب من الشعوب في العالم أجمع، وعنصرية جنوب أفريقيا التي ازيلت كانت العنصرية الأخيرة في التاريخ الحديث.
اليوم ميلاد فلسطين، يأتي في أجواء ظلم رهيب، وأطفال فلسطين كثر منهم شهداء وأجسادهم أشلاء ممزقة، وآخرين ما زالوا تحت الردم أو جرحى دون علاج، لتعطل دور معظم المؤسسات الطبية بسبب التدمير الذي أصابها والشلل الذي ضرب القطاع الطبي بأكمله نظراً لاستهداف التدمير الفرق الطبية من أطباء وممرضين واسعاف ومستلزمات.
إنه قرار الإبادة المتخذ بحق الشعب الفلسطيني، من العدو الإسرائيلي الذي جرب كل الأساليب للتخلص من هذا الشعب ولم يستطع. زعموا بداية، عند إعلان وعد بلفور أنه عن أرض دون شعب، فإذ بفلسطين بلاد غنية بشعبها ومقدراتها، الحضارية العميقة الجذور مدن وبلدات وعمران وتراث زراعي عظيم من البرتقال والزيتون يذهب عمق عمره إلى آلاف السنين. راهنوا أن تهجير هذا الشعب سينتهي به لاجئاً في المخيمات، فيوطن حيث هو أو في الشتات لينسى. وقد فتحت له دولاً عديدة الباب لذلك، فإذا بجيل الشباب يصر على حمل مفتاح الأجداد وعلى العودة، وأما من لا يزال على أرض فلسطين فهو يرفض المغادرة رغم كل الممارسات. وهكذا، سقط رهان آخر على إفراغ الأرض طوعاً، فكانت الإبادة أفضل السبل المتاحة إزاء الصمت القائم للعالم. وها قد بلغ عدد الضحايا، عشرين ألفاً ويزيد ولا زالت ماكينة القتل الصهيوني مستمرة، ولا يزال العالم المزعوم حراً مرتهناً لقرار الدولة العنصرية الصهيونية.
أما أخطر ما يحصل اليوم، فهو استمرار رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم بالصمت، والسكوت المريب المعيب لأنه ينقض كل معايير الإنسانية التي تعبر عنها رسالة المسيح، من سلام وعدالة وحظر للظلم ودعوة للمحبة وحفظ الحقوق ومناصرة للحق.
والأسوأ أن يمتد صمت الكنيسة الكاثوليكية إلى الكنيسة المشرقية والوطنية التي لا زالت تعيش رهاب المواجهة لخيار الدول العظمى، فيأتي الموقف والبيان الشاجب والرافض أو المواجه هزيلاً ضعيفاً.
وحده مطران القدس عطالله حنا أعلن المواجهة لما يجري ورفض الانجراف تمويها في طقوس الفرح المعتادة لهذا العيد، فأي عيد وفلسطين مدمرة وأطفالها يقتلون، مطالباً الكنائس بالصلوات فقط من أجل رأفة الخالق بحال هؤلاء البشر المعذبين الموجوعين المقتولين والمحاصرين، جوعاً وعطشاً والفاقدين للرأفة والحنان واحتضان العائلة لأطفال باتوا أيتاما ودون مأوى.
هذا علماً ان الاحتلال عمل جاهداً لمنع نقل الصورة عن الارتكابات الفظيعة لبعض العرب الخانعين وللغرب وإدارته، فاستهدف الإعلاميين وقتل عدداً كبيراً منهم، دون أن يردعه قانون حمايتهم، وكذلك عائلاتهم وطالبهم بمغادرة أرض المعارك، بعدما باتت صورهم وتقاريرهم تشكل حالة ضاغطة شعبياً على الدول الداعمة له، رغم أن الرأي العام أصبح كما الصوت الصارخ في البرية، لا يرده صدى.
أيضاً وفي إطار تجميل صورته للعالم حاولت إدارة العدو إلزام رؤساء الطوائف المسيحية في القدس القيام بزيارة رئيس دولة الكيان الغاصب “لمعايدته “، وهكذا كانوا في موقع من شكر هيرودوس نفسه الذي قتل كل أطفال بيت لحم، دون أن يرأفوا بعويل الأمهات، وإذا برجال الدين هؤلاء يخسرون أنفسهم ولا يربحون العالم الذي اعتبرهم أبلغ نموذج عن يهوذا الإسخريوطي.
إن سياسة غض النظر التي ينتهجها قادة مسيحيين، وصمتهم نظراً لتصوير الصراع أنه ضد حماس المسلمة، كما إلباس الصراع لبوس الإرهاب، هدفه التغطية على الحقوق من قبل كيان الاغتصاب، وهو أفظع أنواع الخيانة لأبناء شعبنا المسيحيين منهم قبل المسلمين في فلسطين، لأن سياق المعارك أثبت استهداف المسيحيين ودور عبادتهم، كما المسلمين.
إن مراجعة سريعة لحال البلدات المسيحية وأولها بيت لحم يكشف أن محاولات الاستيطان لم تختلف عنها في البلدات المسلمة. فقد صادرت دولة الاحتلال أكثر من عشرة آلاف فدان من أراضي زيتونها وبنت مكانها مستوطنة “غيلو”. وإن ممارساتها في القدس تجاه المسيحيين في تقييد ممارساتهم والبصق على مسيراتهم وتدمير مدافنهم وتخريب أديرتهم وأيضا تزوير شراء أوقاف الكنائس من مطارنة السفارات واستملاكها من الدولة اليهودية، كل هذا مقصده تهجيرهم أكثر وأكثر.
إن عدم وقف إطلاق النار واستمرار المعارك منذ نحو ثلاثة أشهر على أرض فلسطين/غزة ومصادفة ذلك مع عيد الميلاد تستدعي من الزاعمين الحفاظ على المسيحيين، أن يكونوا أكثر تصدياً للغرب ومشاريعه نحو منطقتنا وأن يوقفوا ارتهانهم له لأن صمتهم اليوم سيؤدي إلى إفراغ فلسطين ومنطقتنا من رعاياهم المسيحيين أولاً، كما أنه سيسجل عليهم نقطة عار كبرى وهم الحاملين لرسالة السلام والمحبة التي تمثلها للعالم أجمع رسالة السيد المسيح.
وحذار هنا من أي تجويف للرسالة المسيحية الهادفة إلى إفراغها من مضامينها الإنسانية العالية السمو لأن مرامي مشبوهة، هي وراء تحويل ولادة المسيح إلى حزن وظلم بدل تعزيز عناوين المحبة والسلام والألفة بين البشر. وإنه لعار كبير أن يتحول زمن الميلاد وعيد الولادة لرسول المحبة إلى درب جلجلة وآلام سوداء، آن لها أن تنتهي.