مع امتداد كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة إلى محميات النفط والغاز الخليجيّة، عادت نغمة توطين الفلسطينيين بأشكال جديدة، أخطرها ما يمكن تسميته بالتوطين الصحراوي، الذي يذكّر في الوقت نفسه بالمشاريع البريطانية والأوروبية الأولى، وكذلك الصهيونية، لتوطين اليهود أنفسهم، قبل أن يستقرّوا في فلسطين، نظراً إلى أهميّتها الجيوسياسيّة بالنّسبة إلى المتروبولات الرأسماليّة، وخصوصاً البريطانيّة.
مقاربة السّيناريو الجديد المذكور تستدعي أولاً قراءة نظرية لمفهوم الأرض والصحراء في العقل الصهيوني، وتستدعي ثانياً التاريخ السياسي للتوطين عموماً، وخلفياته ومشاريعه وموقع الصحراء فيه:
أولاً، الأرض غير الجغرافيا، والشعب غير السكّان، بدلالة الفرق بين الحالة الطبيعية والحالة الحضارية. وبحسب هذا التشخيص، فإن تحول الجغرافيا إلى أرض، والسكّان إلى شعب، جرى في إطار الدّولة الحديثة للثورة الصناعية البرجوازية.
وقد سعى الخطاب الكولونيالي الاستعماري، ومنه الصهيوني، إلى فصل الفلسطينيين عن أمّتهم، وحصر تطور الأمة ذاتها، ومنعها من ترجمة هُويتها في إطار دولة قومية، وتحطيم كلّ محاولاتها من أجل ذلك (محمد علي وعبد الناصر)، ومن ثم حصر الفلسطيني في نطاق الحالة الطبيعية (سكان وجغرافيا)، تحضيراً لتصوير اليهود كشعب وأرض في حالة حضارية مقابل الحالة البدوية المزعومة للفلسطينيين، التي أريد لها أن تظل حالة متنقلة خارج فلسطين، بل وأن يعاد إنتاجها كحالة صحراوية لا تملك شروط التحوّل إلى حالة حضارية (شعب-أرض).
ثانياً، انطلاقاً مما سبق، ظلَّ العدوّ الصهيونيّ يلاحق الفلسطينيين، ويُنفّذ المجزرة تلو المجزرة بحقّهم، ويجعلهم في حالة تنقّل دائم، من مجازر فلسطين 1948، إلى مجازر لبنان على يد القوى الانعزالية، وخصوصاً تل الزعتر والكرنتينا وصبرا وشاتيلا، إلى الظروف غير الإنسانيَّة لهذه المخيمات، إلى دور عملاء الموساد والأميركيين والمخابرات التركية في تهجير أهالي مخيم اليرموك وغيره من المخيمات في سوريا. ويُشار هنا فيما يخصّ مخيّمات لبنان وتهجير سكانها إلى أنَّ الأمر عاد إلى النقاش مجدداً، في ضوء تفضيل اللاجئين السوريين عليهم كورقة ضغط ديموغرافية مذهبية بديلة.
ثالثاً، فيما يخصّ مشاريع التوطين الصحراوية، فأولها المشروع الَّذي أطلقه حسني الزعيم في سوريا 1949، واقترح فيه توطين الفلسطينيين في صحراء دير الزور والرقة. ويعدّ الزعيم، كما هو معروف، أوَّل من قاد انقلاباً عسكرياً في سوريا بترتيب من المخابرات الأميركية، لأكثر من هدف: تمرير خطّ أنابيب التابلاين المنافس للشركة البريطانية، وتكريس الوجود الصهيوني بعد احتلال فلسطين 1948، وملاحقة المشاريع التي تهدد هذا الاحتلال، ومنها مشروع أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي، الذي سلَّمه للحكومة اللبنانية التي نفَّذت فيه حكم الإعدام.
أما المشروع الثاني، وكان أول مشروع لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء تقدم به مالك غي، مستشار وزير الخارجية الأمريكية 1949، ولم يخرج إلى العلن إلا بعد أن تبنته حكومة العهد الملكي 1951 حين وافقت على التعاون مع وكالة الغوث لتوطين نصف مليون لاجئ فلسطيني.
ورغم ثورة يوليو 1952 التي أطاحت بالملكية، إلا أن سنواتها الأولى بزعامة محمد نجيب، شهدت نقاشاً مع الإدارة الأمريكية حول المشروع السابق، قبل أن تسقطه مظاهرات دامية في قطاع غزة قادها الشيوعيون آنذاك، وفق مذكرات الشاعر معين بسيسو والمؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين.
ما أن استقرت ثورة يوليو بقيادة جمال عبد الناصر وسقطت خلالها أوهام البعض بفتح قنوات مع واشنطن لتمويل السد العالي وتحديث الجيش، حتى تحولت غزة إلى ساحة للصراع مع العدو الصهيوني الذي شن عمليات عسكرية أدت إلى استشهاد العشرات من الجنود المصريين وأهالي غزة.
كما عرفت تلك السنوات مقاومة مصرية مباشرة بقيادة العقيد الشهيد مصطفى حافظ، وانتهت مع تلك الجولات مشاريع التوطين في سيناء بما في ذلك المحاولة الأمريكية التي أعقبت العدوان الثلاثي الصهيوني البريطاني الفرنسي لإسقاط عبد الاصر، وهو العدوان الي انتهى أيضاً بسقوط رؤساء الحكومات التي أدارت العدوان.
أما أخطر المشاريع التي قدمت لاحقاً لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء، فهو المشروع الأمريكي الذي تقدمت به مؤسسة كارينجي عبر رئيسها جونسون 1962، والذي جوبه بمعارضة قوية من عبد الناصر (يشار هنا إلى أن مؤسسة كارينجي من المؤسسات الراعية لما يسمى الربيع العربي).
بعد عدوان حزيران 1967 طرح العدو الصهيوني أكثر من مشروع للتوطين، مثل مشروع: أشكول 1967 وإيغال آلون 1967 وآبا إبان 1968، بالإضافة لمشروع فانس الأمريكي 1969. ولم تتوقف المشاريع الصهيونية الأمريكية سواء في مناخات الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، أو في مناخات العدوان الأطلسي المعروفة، ومن ذلك مشروع جيور آيلاند 2002 ويوشع بن آريه 2013، وكان ضمن قائمة اقترحها الأميركيون على عبد الناصر (صفقة قمح بدلاً من السد العالي، و”السّلام مع إسرائيل” بدلاً من تسليح الجيش المصري). وقد رد عليها عبد الناصر بتأميم قناة السويس، والتعاون مع موسكو لبناء السد العالي، وكسر احتكار السلاح.
المشروع الثالث ارتبط بتحطيم العراق ومحاولة تحطيم سوريا في إطار مشروع برنار لويس – بريجنسكي، لتمزيق المنطقة إلى كانتونات طائفية وجهوية، وتحويلها إلى محيط تابع “للمركز الإسرائيلي”. وكان من أهداف السيناريو المذكور فصل صحراء الأنبار وبادية الشام وتوطين الفلسطينيين فيها. ومن اللافت للانتباه أنَّ هذا السيناريو ورد في مجلة “الشرق الأوسط” في تموز/يوليو 2007.
إلى ذلك، يحفل كتاب (الترانسفير الثالث) للباحث جهاد الرنتيسي بمعطيات ومراجع هامة فيما يخص المشاريع الصهيونية الأمريكية والبريطانية لتوطين اللاجئين في العراق، ولا سيما إشارته اللافتة جداً للانتباه حول عدم إدراج اللاجئين هناك ضمن قوائم وكالة الغوث الدولية. أما أبرز المحطات التي يتناولها الكتاب فهي:
– المذكرة المبكرة التي تقدم بها أحد قادة الصهيونية 1937، وهو ديفيد بن غوريون إلى اجتماع صهيوني في العاصمة البريطانية ودعا فيها إلى نقل 100 ألف لاجئ فلسطيني إلى العراق. (يشار هنا إلى أنه في ذلك العام طرح أول مشروع بريطاني لتقسيم فلسطين باسم مشروع بيل).
– ما ورد في يوميات يوسف فايتس، مدير دائرة الأراضي في (الصندوق القومي اليهودي) 20/12/1940، بتأكيده على مشروع بن غوريون.
– على ذمة الكتاب المذكور للرنتيسي، أن الجيش العرافي خلال العهد الملكي نقل معه 1948 حوالي أربعة آلاف فلسطيني خلال انسحابه من فلسطين إلى العراق.
– عشية العدوان الثلاثي الصهيوني البريطاني الفرنسي على مصر الناصرية 1956، دعا رئيس وزراء العدو الصهيوني بن غوريون للإطاحة بعبد الناصر مقدمة لتوزيع اللاجئين على العراق وسيناء والأردن، وهو ما أكدته الوثائق البريطانية المفرج عنها، بحسب الكتاب.
– بعد عام 1967 عاد رئيس وزراء العدو ليفي آشكول ليطرح مشروع نقل اللاجئين إلى العراق.
– وفق الكتاب أيضاً، صفحة 125 و126، فقد جرت بعد أزمة الخليج الثانية، مفاوضات مع بغداد لتوطين اللاجئين، وينقل عن صحيفة الأوبزيرفر البريطانية الصادرة بتاريخ 21/5/2000 أن أطرافاً دولية (الولايات المتحدة وبريطانيا) ووسطاء من الأردن، قدمت عرضاً للعراق بهذا الشأن. كما ينقل أفكاراً مماثلة عن مدير المخابرات العراقية الأسبق، وفيق السامرائي، بعد هربه إلى لندن وفق جريدة الشرق الأوسط 19/4/2002.
– عرض آخر للتوطين ورد، وفق الكتاب، عبر الخبير في المعهد الملكي البريطانية للدراسات الاستراتيجية، نورمان إيشيل، الذي اقترح ترحيل مليون فلسطيني من غزة والضفة إلى الأردن مؤقتاً ثم إلى العراق لتأمين توازن مذهبي هناك (صفحة 133).
المشروع الرابع هو توطين الفلسطينيين في منطقة صحراوية من مناطق السودان. وقد عرض هذا المشروع على جعفر النميري بعد تحوّله عن الناصرية وتبنيه أشكالاً من الإسلام الأميركي، ترافقت مع أشكال من الأسرلة والخصخصة، كما عرض على البشير، وربما عُرض على الحكم الجديد المهرول إلى التطبيع، ولا تؤكد الوثائق قبول هذا السيناريو أو رفضه.
المشروع الخامس عرض على ليبيا في عهد الملكية، كما في عهد القذافي، حيث رفض.
سادساً، المشاريع الأخطر، وهي المشاريع التي اقترحت مناطق صحراوية بين جنوب الأردن والنقب وشمال الحجاز، وترتبط جميعها بأفكار صهيونية ظهرت أواخر القرن التاسع عشر، كمشاريع لتوطين اليهود، مثل أرض مؤاب لليهودي تريسترام، وأرض مديان (1878) لليهودي بول فريدمان.
ويلاحظ بالنسبة إلى المشروع الأخير، تشابكه الكبير مع المشروع السعودي الأخير “نيوم”، الذي ضمّ شمال الحجاز مع الخطّ البحري (البحر الأحمر) وجنوب الأردن والجزر التي أخذتها السعودية من مصر، كما يتقاطع مع ما يُعرف في العقل اليهودي، بطريق موسى إلى جانب طريق آخر، طريق إبراهيم الذي جرى تحطيم العراق ومحاولة تحطيم سوريا في إطاره.