الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة :بداية اصطفافات جديدة

 لم تكن الاصطفافات الدّوليّة يومًا واضحة كما هي عليه اليوم، ولم تعد روسيا تلك الدّولة الّتي تتمايز عن الغرب، وتسايره في القرارات الكبرى في آن معًا، وبالتالي فإنّه لم يعد في إمكان دول العالم أن تتّخذ مواقف رماديّة.. هنالك تموضعات دوليّة فرضتها الحرب الأوكرانيّة الّتي تبدو في ظاهرها بين روسيا وأوكرانيا، أمّا في العمق فهي تكاد تكون عالميّة.

    ولأنّها كذلك، فإنّ ارتداداتها تطال العالم كلّه، وشيئًا فشيئًا سيقلّ عدد الدّول الّتي تعتقد أنّ الأمر لا يعنيها، أو أنّ بإمكانها أن تتّخذ مواقف فضفاضة، أو أن تنتظر على رأس الجبل لترى إلى أين تميل الكفّة، أو حتّى تلك الدّول المؤمنة بالهيمنة الأميركيّة والّتي ترى فيها قدرًا لا يمكن الفرار منه، شيئًا فشيئًا، وعلى إيقاع الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة سنرى معالم تحالفات عالميّة جديدة تتشكّل، ومن يدري لعلّ ما سنراه سيفاجئنا أو ربّما يصيبنا بالدّهشة، فالعالم يتغيّر بشكل كبير، وبسرعة لا مثيل لها.

 ولعلّ خطاب الرّئيس بوتين لمناسبة الإعلان الرّسمي لضمّ روسيا مقاطعات دونيتسك، ولوغانسك، وزباروجيا، وخيرسون، يوضح حقيقة الصّراع الّذي يراه وجوديًّا، فقد قالها بشكل صريح وبلا مواربة؛ إنّ حقيقة الأزمة القائمة بين بلاده من جهة وأميركا وأوروبا من جهة أخرى هي وجوديّة، وروسيا تكافح من أجل “طريق حرّ وعادل تصبح فيه الإملاءات الغربيّة من الماضي.” ثمّ اضاف قائلاً إنّ العالم قد دخل فترة التّحوّلات الثّوريّة، ويجري تشكيل مراكز تطوير جديدة تمثّل الأغلبيّة “أغلبيّة المجتمع الدّولي باتت مستعدّة ليس فقط للإعلان عن مصالحها وإنّما لحمايتها أيضًا، والتّعدّديّة القطبيّة فرصة لتعزيز سيادتها.”

   روسيا بوتين إذًا ترى خلف هذه الحرب أفقًا عالميًّا وهي في سبيله ترسم شبكة علاقات دوليّة فتعزّز علاقاتها مع إيران وترتقي بها إلى مستوى التّحالف المتين، تعمّق تعاونها العسكري والتّقني مع ميانمار، وتواصل الحفاظ على “صداقة بلا حدود” وثيقة مع الصّين.. تمدّ أذرعًا تجاريّة مع الهند والشّرق الأوسط وإفريقيا والبرازيل.. إنّها تبني شبكة جديدة من التّحالفات الاقتصاديّة لتحلّ محلّ العلاقات مع الكتلة الغربيّة.

     بالمقابل فإنّ اوروبا كلّها تبدو اليوم في عنق الزّجاجة، فالحرب على حدودها، وعلى حساب رفاهية شعوبها واستقرار أنظمتها، وما علينا إلاّ ان نقرأ ما قاله “جوزي بوريل” لنفهم عمق الأزمة الّتي تعيشها هذه القارّة برمّتها: “نشهد حاليًّا حربًا شاملة مباشرة على حدودنا، الحرب مرّة أخرى على حدود أوروبا.. إنّ حرب بوتين ليست فقط ضدّ اوكرانيا..”

   أوروبا ترى نفسها في قلب الصّراع وهي تنضوي في إطار معركة تقودها أميركا،  ويبدو أنّها لا تملك من القرار فيها سوى ان تتلظّى بنارها.

 قد يقول قائل إنّ بوتين قد استُدرِج إلى هذه الحرب ليغرق في المستنقع الأوكراني، ولربّما كان هذا الكلام في جانب منه صحيحًا، فالخيارات أمامه لم تكن متنوّعة، لكنّ ما هو صحيح أيضًا أنّ الرّئيس الرّوسي يستند إلى قرار استراتيجي بعيد هو في جزء منه لا يخصّ روسيا وحدها،  ففي حال سقطت روسيا ستسقط معها أحلام شعوب كثيرة ترغب في الخلاص من النّير الأميركي، وترى في نهضة قوى جديدة ضوءًا من يدري لعلّه يقود هذه البشريّة نحو الخروج من نفق الأحادية القطبيّة..

   بالمقابل فإنّ هذه الحرب استراتيجيّة أيضًا بالنّسبة لأميركا، يقول مارك ميلي رئيس هيئة الأركان الأميركيّة: “إن سقطت أوكرانيا سقط النّظام العالمي الّذي تقوده أميركا”

         المعركة إذًا واسعة النّطاق، وهي سترسم بدماء الرّوس والأوكران، وباموال أوروبا وشتائها السّاخن معالم عالم جديد، وبانتظار انجلاء الغبار عمّن سيكون المنتصر فيها فإنّ خريطة التّحالفات الدّوليّة ستكون مفتوحة لتموضعات جديدة..

    فلا يمكن للصّين أن تبقى محايدة في حال شعرت أنّه يمكن لروسيا أن تخسر، وكيف تبقى وفي خاصرتها تايوان؟..

  إيران اليوم تنفي تزويدها روسيا بطائرات مسيّرة، ولكن هل ستقبل بسقوط روسيا؟ أيمكنها أن تبقى واقفة على الحياد، وفوق عنقها سيف العقوبات، والحرب المدمّرة، وقد رأت بأمّ العين ما حصل في سوريا وليبيا والعراق..؟

  باختصار فإنّه كما تتشكّل جبهة عالميّة تقودها أميركا، كذلك ستتشكّل جبهة ممتدّة من روسيا إلى الصّين إلى إيران إلى سوريا إلى بعض العراق وبعض لبنان وبعض فلسطين إلى بعض أفريقيا ومن يدري لعلّ بعض من يقف على رأس الجبل اليوم يعود للانضمام إليها غدًا..

  ترسم الحروب في العادة مسارات قد تبدو مستحيلة لكنّ مصالح الدّول إنسيابيّة، مثل ماء النّهر، تجري حيث يمكنها الجريان وتمرّ من حيث ينفتح لها المجال.. فلو رأت بعض الدّول أنّ مصلحتها ستكون في الانتقال من ضفّة إلى أخرى ستفعل.. فهل يمكن على سبيل المثال وضع قرار أوبك + نخفيض إنتاجها في هذا الإطار؟، ولماذا اعتبرت الولايات المتّحدة هذا القرار تحدّيًا لها ومنذ متى تتحدّى السّعوديّة أميركا؟

    كيف يمكن قراءة مواقف تركيّا المحايدة في هذه الحرب مع أنّها جزء من حلف النّاتو؟ وهل يمكن قراءة عودة حماس الإخوانيّة إلى سوريا في هذا الإطار؟ وأوستراليا ما الّذي حصل كي تسحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل؟

وأوروبا الحائرة هل ستبقى موحّدة تحت العباءة الأميركيّة، ألن تخرج من بعضها أصوات تنادي بغير ذلك؟ وقد صرخ الشّعب الفرنسي بأنّه لا يريد الحرب..

    تحت زحف الجليد القادم إلى أوروبا المهتزّة أصلا بعد جائحة كورونا هل هنالك من يعتقد أنّ اوروبا لن تتغيّر؟ هاهي ليز تراس تستقيل ربّما تحت ضغط كونها ترى الأفق مغلقًا، هذه بريطانيا القويّة فماذا عن دول الاتّحاد الأوروبي الضعيفة ماذا عن إيطاليا وماذا عن اليونان، وماذا عن دول أوروبا الشّرقيّة؟؟؟

   ومقابل النّاتو المتهالك، الّذي لم يعد يمتلك سوى الهيبة العسكريّة يمسك بها زمام الشّعوب الضّعيفة، يبدو أن قوًى نشطة وشابّة كالبرازيل والهند والصّين وجنوب أفريقيا وروسيا أيضًا، هذه الدّول الّتي تتمتّع بطاقات بشريّة هائلة وموارد لا حصر لها، ستتصدّر واجهة الاقتصاد العالمي ومن خلال دورها الاقتصادي ستصنع حضورها السياسي والاستراتيجي على خارطة عالم جديد يتشكّل.. 

   دول قريبة ستتباعد، ودول بعيدة ستتقارب ودول واقفة على الجبل تنتظر ميلان الكفّة وأخرى خاضعة تحت حدّ سيف الخوف من العقوبات، وأخرى تعوّدت الرّضوخ، فأين ستتموضع كلّها إن شعرت أنّ السّيف لم يعد قاطعًا..

العالم يتغيّر بسرعة، وتاريخ جديد يُكتَب، وهذه الحرب الرّوسيّة الأوكرانية ستحمل الدّهشة إلى العالم بقدر ما ستحمل إليه من الدّمار والخراب، لأنّها ليست كالحروب في منطقتنا حرب القويّ على الضّعيف، التي لا تُنتج إلاّ مزيدًا من الخضوع.. هذه الحرب متكافئة ولها ارتدادات ولعلّ مَن يعش يرَ.   

د.أحمد الزين