الذكرى الثانية والتسعون للتأسيس

إنها الذكرى الثانية والتسعون، لتأسيس أنطون سعادة حركته الفكرية والنضالية والتي وصف بنفسه ظروف تأسيسها: “كان الجو مظلماً والذين قبلوا الدعوة نفر من الطلبة. كانت الصعوبات عظيمة لكن إيمان أصحاب العقيدة القومية الاجتماعية على قلة عددهم وعزيمتهم الصادقة كانت أعظم من الصعوبات وأقوى.”

إنها أجواء ثلاثينات القرن الماضي الظلامية من إحتلالات بدأت بالعثماني وصولاً إلى الإنكليزي والفرنسي الذين أطبق على أمتنا بمشاريع دولية استعمارية رهنت منطقتنا إلى الآن بأهدافها، لاسيما بإيجاد موطئ قدم للحركة الصهيونية العالمية، وأيضاً بكل ما تركته هذه الإحتلالات من تداعيات على النسيج الاجتماعي من أمراض، لا زالت  إلى الآن تنخره من داخله، الكيانية والطائفية والقبلية والإقطاع والفردية المدمرة، بعدما حركت مكامنها سياسة “فرق  تسد” لأهداف رسمها المحتل من أجل الهيمنة على مجتمعنا.

هذه القلة المؤمنة قامت بالنفوس العظيمة لا بالعدد العظيم، بالعقيدة الصحيحة التي أصبحت الحركة السورية القومية الاجتماعية، وغايته الأولى والمباشرة إعلان هذه العقيدة وشرحها وغرسها في النفوس (حسبما ما قاله في مقاله في جريدة الزوبعة).

هذه الغاية الأولى والمباشرة اقتضت عملاً يجب درس تفاصيله، ونستعير من سعاده ما اعتبره هدفاً أساسياً لحركته النهضوية التي استمرت إلى الآن محط إعجاب وتقدير من أجل تعزيز الوعي وبناء المجتمع بناء سليماً من خلال إنشاء الإنسان الجديد.

 منذ التأسيس في ثلاثينات القرن الماضي إلى اليوم. من الضروري وقف وقفة محاسبة لما استطعنا انجازه بعدما تراكمت على أمتنا وحزبنا، المصائب والويلات.

يقول سعاده عام 1948، كأنه يتحدث اليوم، “عن اللامبالاة لدى الكثير من شعبنا والتي تحكم سلوكهم وكذلك انعدام المقاصد القومية، شكلت صعوبة عظيمة وأوقفت نهوض مجتمعاتنا.”

لكن يبقى أن أبرز ما تميزت به هذه النهضة العظيمة هو استمراريتها وبقاءها عقيدة. أثبتت قدرة معتنيقها على الثبات في مواجهة كل محاولات إضعاف بنية المجتمع فكان تميزها بلا طائفية أعضائها و وقدرتها على توحيد المجتمع في نسيج واحد.

أما بخصوص الشوائب التي برزت بداخلها، لا يجوز إنكار عجز الحزب عن  استكمال بناء الإنسان الجديد، الذي رمى إليه سعاده من تأسيس حزبه.

برز هذا الأمر منذ المراحل الأولى للتأسيس، حيث ظهرت حالة الإنحراف، بعد غياب المؤسس سعادة وبعد انحراف القيادة إلى أهداف سياسية لتحقيق انتصارات فردية، لا علاقة للحزب بها.

ويقول في هذه الآفة، أن النزعة الفردية والرأي الفردي النفعي الشخصي، هو من أعظم الأمراض، وصعوبة من أبلغ الصعوبات التي يجب أن نتغلب عليها. ولم تنته تلك الحالة الإنحرافية إلا بمعالجة شخصية من الزعيم نفسه، كان فيها حريصاً ومتأنياً، حرصاً على هذه الإمكانيات، لكن استمرار النزعة الفردية بداخلهم أدت بهم للخروج عن دروب النهضة.

لا شك أن استشهاد سعاده باكراً، أدى لجعل النهضة ورقة ضعيفة في مهب رياح التغييرات السياسية العاصفة بالأمة في مرحلة من التخبط بالتحالفات والمطامع الدولية، وفي أجواء من عدم التجربة وصغر سن القيادة، وهكذا لعبت المفاسد بهؤلاء، ممن اعتقدوا أنفسهم ورثته.

الجدير بالذكر أن القوميين الاجتماعيين تميزوا بثباتهم على قسمهم وعلى إيمانهم بالمؤسسات التي قال عنها المعلم أنها “أعظم أعماله بعد وضع العقيدة ….”لأنها وحدها ضمانة الاستمرار للفكر وللخطة النظامية التي وعد أنها ستواجه الحركة الصهيونية وتداعياتها وأحابيلها والتي وعى مخاطرها منذ العشرينات وتصدى لمخاطرها في خطبه ومقالاته.

أهم ما ميز هذا الفكر انه كان في طليعة المواجهين للحركة الصهيونية التي زرعها الاستعمار في بلادنا من خلال وعد الدبلوماسية البريطانية لليهود في فلسطين، وسلخها عن الأمة من خلال زرع دولة الاحتلال الصهيوني، وجعلها قاعدة عسكرية واستيطانية تتيح للاستعمار العالمي نزع ثرواتنا وإضعاف بلادنا من خلال تعزيز الفرفة بين أبناء الأمة الواحدة، كيانات وطوائف.

إن مواجهة حزبنا مع هذا الكيان الغاصب، لا تزال  أبرز تجلياته، وجعلت منه قدوة تقتدي به القوى كافة، إن من خلال منظمة الزوبعة التي تأسست عام 1948 على يد الرفيق مصطفى سليمان لمواجهة  الهجمة الاستيطانية آنذاك، ولا نغفل  ثورات الثلاثينات وأبطال الحزب الميامين آنذاك من سعيد العاص إلى حسن البنا وآخرين. 

ثم كانت في الثمانينات نظرية الأجساد المتفجرة والعمليات الاستشهادية التي كرت أسماؤها تباعاً، من وجدي الصايغ إلى سناء محيدلي وآخرين، من رجال ونساء في النهضة كانوا قبساً من نور في دياجير بلادنا المستهدفة بالمؤامرات.

علماً أنه لا يمكن إنكار دور الحزب الريادي في إفشال المشروع التقسيمي للكيان اللبناني وصهينته من خلال القضاء على رأس المشروع، ولا دوره الطليعي في تحرير بيروت على يد المقاومة الوطنية.

واذا  كانت التطورات الدولية وسياق أهداف الدول العظمى لم يتوقف بعد عن استهداف بلادنا ولا زالت محاولات تدمير العراق والجمهورية السورية جارية، ولا زلنا في إطار مواجهة حالة الكيانية التي زرعتها دول الاستعمار ،فأن ذكرى التأسيس تستدعي منا أن نواجه ما يصنعه الخارج وكذلك اصحاب الغايات الخصوصية المدمرة للحزب، وهي تركت ولا تزال أبلغ الآثار،  في تفتيت  وحدتنا الروحية وصلابة المواقف ووحدة الرؤية.

إنه الإنسان الجديد لبناء مجتمع جديد هو ما نرمي إليه لنستطيع من خلال ذلك التغلب على ما يعيقنا أن مؤسستنا الحزبية في مواجهتها اليوم لمؤامرات الخارج والداخل نضع أمامها عهداً ووعداً باستمرار بناء الحزب رغم المصاعب.

القوميون الاجتماعيون مدعوون اليوم إلى تعزيز منعتهم وثقتهم بحزبهم من جديد وإلى دفع مؤسسات الحزب إلى الأمام من خلال تمتين قدراتها وخبراتها من أجل دعم  انتشار الحزب وتفعيل دوره ليكون حركة الشعب العامة، وتعزيز مقاومته.

لقد قال سعاده: “إن طريقنا شاق وصعب لا يسلكه إلا الجبابرة أصحاب الأكتاف القوية ونحمل قضية كتب لها النجاح لأنها قضية حق.”