لم تترك معركة في العقود الأخيرة من التاريخ العربي الحديث آثارا مركبة واسعة على الأصعدة الإقليمية والعربية والدولية كما تركت ملحمة غزة، بالنظر إلى تقاطع وتزامن هذه الملحمة مع الأزمات البنيوية المتفاقمة لمجمل النظام الرأسمالي العالمي وامتداداته المشوهة في النظام الرسمي العربي وبضمنه السلطة الفلسطينية.
على الصعيد العام
- مقابل كي وتجريف وعي الهزيمة والاستسلام والإحباط والأوهام المختلفة مثل أوهام التسوية والتعايش مع العدو، وما ترتب على تشوش وخلط الأوراق والتناقضات وحرب المفاهيم، أسست ملحمة غزة لوعي جديد من ثقافة الثقة بالنصر والبطولة والشجاعة، واستعادت أيضا الروح والتراث الكفاحي الذي أرسته حركة التحرر القومي ضد الاستعمارين الأوروبي والأمريكي.
فبعد أن سادت أوهام السلام المزعوم والهويات الفرعية لدولة سايكس بيكو، والخطاب الليبرالي الذي انتزع معركة الحريات العامة من سياقها الوطني التحرري، عاد خطاب التحرر القومي والربط من جديد بين معركة الديموقراطية والخبز والحريات ومعركة الاستقلال الوطني وفك التبعية، بما هي معركة ضد الإمبريالية والصهيونية وامتداداتهما المحلية في التبعية المطلقة والإملاءات الإمبريالية في كل الحقول.
- مثلما استعادت ملحمة غزة خطاب وثقافة المقاومة، استعادت قانون التناقضات، الأساسي مع الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، والرئيسي مع العدو الصهيوني كموضوع تناقض تناحري لا يحسم إلا بدحره النهائي عن كل شبر من فلسطين، وأكدت أن القضية الفلسطينية ليست نزاعا حدوديا أو فلسطينيا – إسرائيليا، بل القضية المركزية الوجودية للأمة كلها.
- أسقطت ملحمة غزة كذبة الليبرالية والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وأظهرت الغرب الرأسمالي عاريا مجرما بلا أقنعة.
التداعيات السياسية
- على الصعيد الفلسطيني، سقوط سلطة وخطاب أوسلو واستعادة خطاب المقاومة وثقافتها وروافعها الاجتماعية وخاصة المخيم كقلب مسلح للثورة الفلسطينية، كما أسقطت ملحمة غزة أوهام التسوية وخط الاستسلام بكل أشكاله وأدواته وتعبيراته.
- على صعيد محور المقاومة، بالإضافة لحركة المقاومة الفلسطينية، فمن تداعيات ملحمة غزة تكريس محور المقاومة كقوة أساسية على صعيد المنطقة والإقليم والثقة بهذا المحور رغم محاولات التشكيك من القوى المهزومة والطائفية.
- على الصعيد العربي، سقوط النظام الرسمي التابع ومؤسساته بين متورط وعاجز ومتخاذل وسمسار، حيث ظهرت فضيحته جلية وشائنة وهو يعجز عن تأمين الحد الأدنى من مشاركة غزة والشعب العربي الفلسطيني في مقاومة الهمجية الصهيونية، ناهيك بعدم قيام أي من العواصم المتورطة في اتفاقيات ومعاهدات مع العدو، عن إجراءات بسيطة متعارف عليها في الأزمات الدولية مثل تجميد المعاهدات على الأقل والطلب من سفارات العدو المغادرة إلى أن ينصاع للحد الأدنى من استحقاقات مثل هذه الأزمات، بل أن العديد من عواصم النظام الرسمي العربي راحت تتبارى في خطابات عالية السقف من زاوية إنسانية دون أن تجرؤ على موقف سياسي عملي واحد.
- على الصعيد الإقليمي، ويشار هنا بشكل خاص إلى تركيا التي راحت كما النظام الرسمي العربي تتحدث بنبرة عالية دون أن تقدم على خطوة حقيقية واحدة من نمط إلغاء أو تجميد العلاقات الدبلوماسية أو الاستخباراتية مع العدو الصهيوني.
- على الصعيد الدولي، أسقطت ملحمة غزة وكشفت حقيقة النظام العالمي للغرب الرأسمالي وجوهره المتوحش العنصري وأوهام البحث عن قواسم مشتركة معه فيما يخص القضايا العالمية الأساسية ومنها قضية الأمن والسلم الدوليين التي طالما تذرعت بها قوى ودول الاتحاد الأوروبي ومن يدور في فلكها من جماعات وهيئات مختلفة، بالمقابل أظهرت ملحمة غزة الحاجة لشكل عالمي جديد بدأ بالتبلور وفق معادلة شرق وجنوب عالميين مقابل الغرب الرأسمالي المتوحش، كما أظهرت أيضا الحاجة إلى إحياء منظومات مثل الحياد الإيجابي.
- على صعيد العدو، إلى جانب الثقة بقدرة المقاومة ومحورها على هزيمة العدو الصهيوني، وأيا كانت الآفاق الراهنة للاشتباك العسكري الحالي، فقد دخل العدو مرحلة الهزيمة السياسية والسيكولوجية النهائية التي لا تنفع معها تزويده بأحدث الأسلحة، فمن بديهيات الاستراتيجيات الكبرى أن الهزائم السياسية التاريخية أخطر العوامل التي تؤدي إلى مغادرة التاريخ عاجلا أو آجلا مهما بلغت القوة العسكرية الميدانية واللوجستية.
ومن المؤكد أن المناخات الزلزالية لملحمة غزة ستطلق موجات من العد العكسي للهجرة اليهودية بكل ما يعنيه ذلك من عامل إضافي لنهاية هذا الكيان وهو العامل الديموغرافي.