زيارة أنطون سعاده إلى أوروبا

زيارة أنطون سعاده إلى أوروبا

     في صيف العام 1938، قرر أنطون سعاده القيام برحلة واسعة في المهجر، يزور خلالها عواصم الدول الأوروبية، وذلك بهدف إطلاع الرأي العام العالمي على القضية السورية وتطورات الأحداث في سورية، وموقف القوميين الاجتماعيين من هذه التطورات، إضافة إلى تنظيم المهجر السوري ليكون على استعداد للعمل المتضامن مع النظام القومي في الوطن، وبتاريخ 15 آب 1938 صدر عن عمدة الإذاعة بلاغ رسمي بهذا الخصوص، إقتصر على اعطاء الخطوط الاساسية للغرض من رحلة الزعيم، ونظراً لأهمية هذه الرحلة والتي تُعتبر ضربة ينزلها الزعيم بمهارة فائقة بالأعداء المتآمرين على القضية القومية، فقد حذرت العمدة في بيانها السوريين القوميين من (الإشاعات والاراجيف) التي سيختلقها الأعداء للنيل من الحزب السوري القومي.  

    إذا ألقينا نظرة معمقة على هذا البلاغ وفحصنا سطوره نعلم أنه إعلان لخطوة سعاده الجديدة التي كان يهدف من خلالها إنتقال الحزب الى ساحات جديدة، والقيام بحركة إلتفافية على أعداء الامة السورية، لتعطيل خطة عزل الحركة السورية القومية عن العالم المتمدن، ومنع الحزب السوري القومي من الإتصال بالمهاجرين السوريين الذين كان سعاده يدرك الإمكانيات العظيمة الكامنة فيهم، وكذلك النتائج الكبيرة التي يمكن الوصول إليها بتضامنهم المنتظم مع النظام القومي في الوطن.

    لما لم يتمكن أعداء القضية السورية القومية من توقيف سعاده أو حتى تقييد حركته، لجأوا إلى عمّالهم في المهجر ليعرقلوا نشاطاته بشتى الطرق.

    زار أنطون سعاده إيطاليا وألمانيا، حيث لبى دعوة الحزب السوري القومي في برلين، وأراد أن يستفيد من فرصة درس الإمكانيات الأنترنسيونية السورية في نواحي جديدة، وبسبب ضيق وقته لم يزر فرنسا، إضافةً إلى أنه لم يكن من المناسب أن يزورها في ذلك الوقت، لأن السياسة الفرنسية كانت مندفعة في خطة لا تسهّل ايجاد جو جديد، وأيضاً بسبب وجود جميل مردم في باريس بصفته رئيس الحكومة الشامية، فلم يشأ سعاده أن يتدخل في الموقف حتى لا يكون أي مبرر لدى “الكتلة الوطنية” لتغطية فشلها بما كان يصرح به دائماً جميل مردم وهو “دسائس الخصوم”، أضف إلى ما سبق فإن الزعيم كان قد أبدى وجهة نظره للمفوضية الفرنسية، وأصبح من واجب الفرنسيين أن يبادروا للقيام بالخطوة التالية.

     كان لزيارة الزعيم هذه نتائج كبيرة أظهرت لأعداء الأمة السورية أنه لا يمكن عزلها، أو الإستفراد بها والإستبداد بشؤونها، وقد ظهرت بعض النتائج في الصحف، فقد نُشرت مقالة عن المسألة السورية والمعاهدة مع فرنسا، وموقف هذه الدولة المعيب، كما ظهرت عدة مقالات في صحف أخرى فيها إنصاف لوجهة نظر سورية، وكذلك في المانيا فقد إهتمت الصحف بزيارة سعاده إليها، وبالمسألة السورية، كما كانت الحفاوة التي لقيها في هاتين الدولتين إنذاراً كافياً للدولة الفرنسية بعدم صوابية موقفها وأن عليها تغييره.

    إستطاع الزعيم أيضاً من خلال هذه الرحلة أن يتيح للسوريين المهاجرين والرأي العام  أن يدركوا حقيقة الصراع بين الحزب السوري القومي والسياسة الفرنسية المتسلطة على سورية باسم “الانتداب”، فكان ذلك أول انتصارات سعاده الباهرة، ومما يدل على أن الضربة أصابت هدفها تماماً هو تخبط الاعداء، فقد أوعزت السياسة الفرنسية إلى عمّالها بالإدعاء علناً أن فرنسا كانت ترغب في التفاهم مع الحزب السوري القومي والنزول عند مطالبه، ولكن مرور الزعيم بألمانيا وإيطاليا هو الذي جعلها تتراجع، لقد كان الإدعاء يكفي في الماضي، أما اليوم فالنهضة السورية القومية منظمة عظيمة، متينة تحاسب على كل كبيرة وصغيرة وتضبط كل قول وعمل.

    إقترح رئيس الغرفة السياسية في المفوضية الفرنسية على وفد الحزب السوري القومي، أن يحل الحزب تشكيلاته ويلغي مبدأه الإصلاحي الخامس القائل بإنشاء جيش قوي من سورية بوصفه أساساً لانشاء علاقات ودية بين الحزب والمفوضية الفرنسية، فلما أطلع الوفد سعاده على إقتراح الفرنسيين، قال: “اني لا أبيع الجيش السوري القومي بكل الصداقات في العالم”.

    لقد أظهر سعاده للفرنسيين النقطة الجوهرية التي تصطدم عندها النظرة السورية القومية بالنظرة الفرنسية السياسية، وعرض على الفرنسيين التفاهم الودي على أساس الإعتراف بأن سورية أمة متمدنة، حرة، والإعتراف بحقوقها القومية والسياسية الانترنسيونية، فعلى الفرنسيين أنفسهم أن يتقدموا الآن بعرض ما، يستعدون للإعتراف به إذا كانوا يريدون فعلاً تفاهماً ودياً، وبالطبع لم يكن الفرنسيون صادقون في هذا الموضوع.

محمد جميل عليان