الاسطورة التي تهشمت

الاسطورة التي تهشمت

في العقود السبعة والنصف الماضية من عمر “اسرائيل” القصير، استطاعت هذه أن تسوّق نفسها باعتبارها الدولة الأسطورة المحدودة المساحة وعدد السكان، ولكنها مع ذلك واحة الحرية والديموقراطية وقيم اللبرالية الغربية، في صحراء الاستبداد الشرقي، والدولة القوية والقادرة على الانتصار على اعدائها الذين يفوقونها عدداً وثراء ومساحة بمرات ومرات.
اقتنع بهذه الأسطورة- الاكذوبة بعض من المهزومين في أُمّتنا وعالمنا العربي ومعهم بعض من العالم، لأسباب تتعلق إما بالخوف من قوتها التي لا تقهر وجيشها الذي يتصورونه على انه الجيش الرابع او الخامس في العالم ،وأما عن مصلحة وحاجة لاعتقادهم انها القادرة على حماية النخب الفاسدة من شعوبها وابقائها في مواقعها، وأما عن إعجاب ودهشة بإعجازها واسطورتها لدرجه ان صدق كل هؤلاء ان ما تريد “اسرائيل” قد اصبح القدر المحتوم والقضاء الذي لا يرد.
صناعاتها العسكرية هي الاقوى في ميادين المعارك، هكذا يقولون فدبابة الماركيفاه هي التي تملك الدروع التي لا تخترقها مضادات الدبابات، وصواريخها ومنها صاروخ حيتس (السهم) من افتك صواريخ الحربية وأدقها في إصابه الهدف، وبندقية الجليلة تتفوق على الكلاشنكوف الروسي والميم 16 الأمريكية، وقدراتها العلمية والتكنولوجية وصناعاتها في مجال الرقائق الإلكترونية والطائرات المسيرة هي من الافضل بالعالم، أما قدرتها السيبرانية فقد جعلت من برامجها التجسسية (بيجا جوس) اهم برنامج تنصت وتجسس تسعى الدول واجهزة مخابراتها للحصول عليه.
لكن كل ما تقدم تهاوى في سويعات قليلة صبيحة السابع من تشرين، فلم تستطع الدولة الأسطورة الصمود لدقائق امام ميليشيا متواضعة تعيش في قطاع محاصر، فقد اجتاحت هذه الميليشيا القواعد العسكرية المحصنة والجدران العالية المزودة بالتكنولوجيا المتطورة والمستوطنات ذات الوظيفة القتالية، كان بضع مئات من هذه الميليشيا يحرقون ويقتلون ويدمرون ويأسرون أعداداً من العساكر لم يتم احصاءها حتى الآن، فيما استيقظ اهل غزه المدنيين على ضجيج المعركة، فالتحقوا بالمقاومين، بعضهم بأحذية منزلية (بابوج) او ملابس النوم (بيجامة) ليشاركوا دون سلاح بأسر ضباط وجنود الجيش الرابع في العالم المرتعشين رعباً، وكان مشهداً عجيباً شاهده العالم على الفضائيات عندما كان هؤلاء اشباه الحفاة يفركون اعينهم من النوم و يتأبطون رؤوس الضباط والجنود المستسلمين ويسوقونهم نحو الاسر.
النتيجة الصارخة، لم يفلح برنامج التجسس (بيجاسوس) في الحصول على معلومات عن المقاومة واستعداداتها للهجوم، ولا زالت دبابة المركيفاه ذات الدروع التي لا تخترقها مضادات الدبابات تتلعثم وتتردد ان كانت ستدخل في معركة برية مع المقاومة ام انها اعجز من ذلك، و هي معركة لا تستطيع إلا ان تخوضها ولا تستطيع ان تنتصر بها، فهل لا زال الخائفين من “الدولة” والأسطورة خائفين؟ وهل لا زال المعجبين بها معجبين؟ وهل لا زال هناك زبائن يرغبون بشراء اسلحتها وبرامجها التجسسية؟
لم يكن من بد امام تهشم الأسطورة الا ان تستنجد “اسرائيل” بصانعيها ومشغليها الذين هبوا لدعمها بالسلاح والسياسة وزيارتها وبعضهم من تلقاء نفسه، وكان كبيرهم الرئيس الامريكي جوزيف بايدن الذي تم الترتيب له لعقد قمة في عمان مع قادة محور العجز المغلف بالحكمة والعقل، حيث يستطيع الضغط عليهم، او لعلهم يستدرجون ضغوطه وذلك للدخول في المعركة ضد المقاومة ولو بالحياد الظاهري، لكن تحركاً انسانياً شعبياً عالمياً، تحرك في المقابل وكان اهمه ما فعله الشارع الاردني الذي كان له فضل وشرف شطب انعقاد القمة من اساسها، وليس الفضل كما قيل هو رفض القيادات المشاركة بالقمة عقدها اثر جريمة قصف المستشفى المعمداني،
جاء بايدن اولا لشد العصب الاسرائيلي وعصب محور العجز والاعتدال و ليؤكد لهم وقوف بلاده الى جانبهم و تبنّيه لرواياتهم، تحدث في مؤتمره الصحفي الذي جمعه مع نتنياهو وكأنه جنرال “اسرائيلي” من اقصى اليمين، ولكن الرئيس الذي يعمل في خدمة الدولة العميقة في واشنطن يدرك ولا شك خطورة اطالة أمد الحرب هذه على مجريات الحرب الروسية الأوكرانية من جانب، ولإمكانية انخراط الضفة الغربية والداخل الفلسطيني في اعمال المقاومة، ثم لاحتمال دخول محور المقاومة او بعض اطرافه في المواجهة مما سيؤدي الى تحولها من حرب ضد غزه، ضد المقاومة، ضد حماس، الى حرب اقليمية واسعة تكون الولايات المتحدة ومصالحها الخاسر الاول فيها، ومن بعدها كيان الاحتلال ومحور العجز العربي،
قبل وصوله وصلت البارجات وحاملات الطائرات الى البحر الابيض المتوسط، لإثارة الرعب استعداداً لزيارته، ولكن ما حصل ان هذه البارجات وحاملات الطائرات لم ترعب احدا، وانما حرضت القوى الحية على مزيدٍ من التحرش لا في “اسرائيل” فحسب كما يحصل في جنوب لبنان حيث تمارس المقاومة اشغال العدو والاشتباك معه على طريقه تنس الطاولة، وانما بمشاركة المقاومة في الشام والعراق، بقصف قواعد أمريكية في الريف الشمالي لدير الزور، وفي قاعدتي التنف وعين الاسد وغيرهما من المواقع الأمريكية في العراق، فيما يطلق اليمن صواريخه باتجاه بارجة عسكرية أمريكية في البحر.
انه مفصل تاريخي هام اذ ستعيد نتائج الحرب صياغة المنطقة حيث ستضعف قوى كانت تبدو قوية، وستغيب اخرى، وستظهر قوى ووجوه جديدة، منها من يملك الفرصة في حال الانتصار ليكون القوة الاقليمية الاولى والمسيطرة على المشرق والتي عليها ادراك ان هذه ليست معركة غزة و فلسطين فقط و انما معركتها.

سعادة مصطفى ارشيد
جنين- فلسطين المحتلة