بدائل الحزب

تناقش الشبكات الفوضوية والاصوليات التكفيرية فكرة الدولة الوطنية، وكذلك فكرة الحزب التي تبدو محافظة وفق مقاييس متناقضة من أقصى اليسار إلى اقصى الليبرالية. ولم يقتصر سؤال الأداة الجديدة على سقوط تجربة الحزب الأوحد في البلدان الشرقية وظلالها في العالم الثالث، بل أصبح سؤالاً عاماً مع التغيرات الكبيرة التي طرأت على فكرة الدولة عموماً وتراجعها أمام التجارة الحرة، وثورة المعلومات وتداعي الجدران السابقة وأمام التحولات التي جرت على مفهوم الطبقة وفائض القيمة ومعدل الربح والتركيب العضوي لرأس المال.
وكان لهذه التغيرات تأثيرات مضاعفة في بلدان الجنوب العالمي حيث انهارت الطبقة الأساسية فيها، وهي الطبقة الوسطى بدون أن تترك مكانها لبدائل او تشكيلات طبقية مدنية.
وكان الدرس الأعظم من هذه التجربة أن تراجع مفهوم لينين لحزب المركزية الديمقراطية لم يفسح المجال لمفهوم كاوتسكي حول حزب الاشتراكية الديمقراطية المرن بل الخلايا الإسلامية في آسيا والنقابية الثورية في امريكا اللاتينية والعمل الشبكاتي الملون
فمع تراجع مطارق البروليتاريا عن دكتاتوريتها الذائعة الصيت، ابتداء من غرامشي وانتهاء بالانهيار السوفياتي، ومع انهيار الطبقة الوسطي في العالم الثالث تحت ضربات البنك الدولي والمافيات المالية، كان التصدع كبيراً في القوى السياسية – الاجتماعية التي تصدت لهذه المهام سابقاً وتشكلت كأحزاب من طرازات مختلفة، اشتراكيات قومية أو ديمقراطية أو شعبية، وكذلك الحال مع الجماعات الإسلامية التقليدية ومع الجماعات الوطنية الشعبوية مثل الناصرية والبعث وجبهة التحرير الجزائرية وحزب الاستقلال المغربي ولجان القذافي.. الخ.
من قلب هذا المأزق وابتداء من امريكا اللاتينية ثم آسيا بكل تلاوينها، الإسلامية، واليسارية بدأت تتشكل قوى جديدة على طرفي القوس السياسي – الاجتماعي… فبديلاً عن القوی التقليدية في المجتمع السياسي والمجتمع المدني كان من مصلحة مطابخ الاستراتيجيات الغربية تصدير شكل جديد مهمته الرئيسية مواكبة العولمة الإمبريالية القائمة على تفكيك الأسواق والدول السابقة بتفكيك الأجندة الوطنية المضادة وتحويل الديمقراطية من برامج عامة بدلالات وطنية إلى أجندات صغيرة مفككة متناثرة باسم البيئة وحقوق الطفل والعنف ضد النساء.. الخ.
وقد انتج هذا الشكل الجديد بدوره شبكاتية مضادة مناهضة تتراوح بين تظاهرات المناسبات ضد العولمة مثل المنتدى الاجتماعي المناهض لمنتدى دافوس، وبين تظاهرات أكثر راديكالية مثل منتدى المقاومة… وجميعها تتجنب العمل الحزبي والجبهوي.
بالمقابل، عادت إلى العمل التيارات المسلحة، سواء الاصوليات المصنعة في اقلام الاستخبارات الاطلسية ولاسيما الانجلو سكسونية ، او بعض الاصوليات الراديكالية الوطنية او مجموعات البؤر المسلحة، سواء عبر التقاليد التي دشنتها الجماعات الماوية أو ثوار المدن (التوباماروس) أو ثوار الجبال التي كرسها غيفارا.
الشكل الثالث الذي استعاد حضوره من ثنايا القرن التاسع عشر هو الحركة الفوضوية ساوء المصنعة في الدوائر الاطلسية على غرار ما دعت اليه رايس اوالتي أسسها الثوري الروسي باكونين الذي يرفض فكرة الدولة من أساسها لا بالاعتماد علی العقد الاجتماعي عند هوبز أو لوك ولا بوصفها أداة لتلطيف الصراعات الطبقية أو أداة المرحلة الدكتاتورية البروليتارية الانتقالية عند لينين….
وقد ازدهرت هذه الفوضوية خلال الحرب الأهلية الاسبانية وخاصة الديمقراطية المباشرة والكومونات الشعبية في الحقول المختلفة….
إذا كان مفهوم الحزب قد تراجع فعلاً أمام ثالوث الفوضوية والخلايا المسلحة والشبكاتية، فذلك لا يعني موته بل تجديده في ضوء الأسئلة والتحديات الجديدة التي تواجه الدولة والطبقات الوطنية (القطرية) في ضوء العولمة والتجارة الحرة والشركات متعددة الجنسية والمعادلات الجديدة القانون فائض القيمة والتركيب العضوي لرأس المال.
من مفكري عصرنا الذين حاولوا من قلب قوانين هذا العصر، وتلمس الأحرف الأولى للصراع في تحدياته الجديدة حيث تقرر الرأسمالية مصير العالم، المفكر الإيطالي غرامشي الذي ناهض الحزب الستاليني كما ناهض كاوتسكي وحزب الاشتراكية الديمقراطية الرخو، وكذلك النقابية الثورية عند سوريل وكروتشي .
وكان غرامشي يحذر من الفهم الخاطئ لتجربة لينين في ثورة أكتوبر وحديثه عن كسر الحلقة الضعيفة في السلسلة الرأسمالية القوية.. فما قصده لينين هو كسر هذه الحلقة في إطار الثورة الدائمة كما عمقه تروتسكي.
انطلاقاً من هذه الرؤية العالمية الرأسمالية وعالمية الصراع والكفاح ضدها صاغ غرامشي ثلاثة مفاهيم مربطة معاً، حرب المواقع، الكتلة التاريخية والمثقف العضوي، واشتق منها مفهومه الأداة الملائمة … الحزب الذي يدرك أن المعركة طويلة وان للمثقفين (الوعي) دوراً هاماً فيها وأن الكتلة التاريخية المتركة (القوى المتضررة من الرأسمالية المتوحشة) هي مادة الصراع اليومية وأن إدارة هذا الصراع تستدعي اسلوباً مختلفاً هذه المرة، هو حرب المواقع في ضوء التحولات الرأسمالية الكونية وانعكاساتها المحلية ولا سيما على الكتلة التاريخية التي يعاد انتاجها في ضوء هذه الانعكاسات.
وبدون أن يتحدث غرامشي عن الإطار القومي لكتلته ومثقفه وحزبه، فإنه بوقوفه الطويل امام التمايزات الاجتماعية بين الشمال والجنوب الإيطاليين كان يساعدنا على الافادة من هذه المساهمة ورؤية أفكاره على الصعيد القومي، فيما يخص حالتنا العربية.
ومن المفهوم أننا لا ننتظر من غرامشي صياغة مشروعنا بعد عقود على مشروعه، ولكننا نرى في مساهماته ما يساعدنا على تشخيص كتلتنا التاريخية القومية وعلى تحديد الأساليب الملائمة لحرب المواقع في ظروفنا.

د.موفق محادين