في ظل المآسي والمحن والظروف الصعبة التي يتخبط بها شعبنا نتيجة سياسات المسؤولين المتآمرين والمتقاعسين الذين أمعنوا بفسادهم وسرقاتهم وصفقاتهم وغيّهم.. ونتيجة أطماعهم واستغلالهم وتدميرهم لمؤسسات الدولة ومرافقها ونهبهم للمال العام ولودائع الناس، حصل الانهيار وفقدت العملة قيمتها ودُمِّرَ الاقتصاد وتفككت الدولة وأمسى الشعب كله مُفلسٌ وجائعٌ يئِّنُ من الغبنِ واليأسِ والقهرِ والتشرّدِ والمرضِ والاذلال ويموتُ على أبواب المستشفيات على مرأى الطبقة الحاكمة الظالمة المتخلّية عن ضميرها ومسؤولياتها الوطنية والمتغاضية عن مصير الوطن وتحلله وعن بؤس الناس وآلامهم.
في ظل هذا الفساد المستشري الذي ترعاه شبكة الاحتكارات والمنظومة الفاسدة المتوحشة، المتعطشة للسلطة والمال والنفوذ، والمتشبِّثة بامتيازاتها ومنافعها ومراكزها غير مبالية بأوجاع الناس وظروفهم القاهرة.. هذه المنظومة المُجرمة الفاقدة للحس الوطني والكرامة الوطنية والرافضة اعتماد الحلول للأزمات الاقتصادية والمالية والصحية ولكل الأوضاع المعيشية التي يعاني منها الشعب بكل أطيافه.. في ظل هذه الظروف الصعبة وفي هذا الزمن الرديء، زمن اليأس والانهيار والانحلال، يسأل الناس كيف الخلاص؟ هل من فئة نزيهة أو حركة إنقاذية تنتشله من هذا الوضع الخطير؟
وأسئلة كثيرة توجّه إلى القوميين الاجتماعيين في جميع أنحاء الوطن السوري وفي المغتربات: “أين أنتم يا أبناء العقيدة القومية الاجتماعية – عقيدة أنطون سعاده التي تشكِّل الأمل الوحيد للخلاص من الحالة المخزية؟ أين أنتم يا أبناء الحياة؟ إنّ الشعب ينتظركم! أنتم أمل الأمة الوحيد!”[1]
فأين نحن يا رفقائي القوميين الاجتماعيين؟ ألسنا معنيون بأوضاع شعبنا وبمصير وطننا وثرواته؟
صحيح أن حزبنا تعرّضَ لظروف صعبة وعانى من إخفاقات عديدة ولكنه بصبركم وإرادتكم وعطاءاتكم قادر أن يتغلّب على كل الصعوبات ليعود إلى طبيعته المعروفة: حركة صراع وإنقاذ للشعب، تماماً كما أراده سعاده العظيم. وهذا الحزب مهما اعترضته المحن والصعاب والإخفاقات، لا يمكن أن يكون على غير طبيعته الجوهرية، لأنه نشأ ليكون حركة صراع وانتصار لا حركة استسلام وقناعة. وهذه الحركة القومية الإجتماعية هي، وبحق، حركة إنقاذ وإصلاح فعلي، حركة صراع بالفكر والعمل وقتال بالدماء.. صراع بين فكر جديد وحياة جديدة وجهتهما ذروة الشرف والمجد وفكر قديم وحياة قديمة وجهتهما حضيض اللؤم والذل.[2]
سعاده لم يؤسس حزبه ليكون حزباً سياسياً بالمعنى الاعتيادي، حزباً يناضل قادته للوصول إلى مواقع السلطة والاستفادة من منافعها وليكونوا شركاء في منظومة الفساد السياسي والمالي.. ولم يؤسسه ليكون حزباً فئوياً ينقسم أعضائه إلى تكتلات متصارعة تتمحور حول أشخاص مهما علا شأنهم.. ولم يؤسسه ليكون حزباً كيانياً محصوراً في كيان من كيانات الأمة ومنشغلاً في سياساته، بل أراده حزب قومي اجتماعي يخصُّ الأمة السورية كلها.. حزبٌ منتصرٌ في كل كيانات الوطن، لأن قضيته هي قضية قومية كلية شاملة لكل أبناء الأمة وحياتهم بجميع وجوهها ومقاصدها العظمى.. فهو حزب نهضة الأمة وسيادتها واستقلالها وتقدمها.. حزبٌ يهاجم الاقطاع والظلم والفوضى والمفاسد ويرمي إلى التغيير وإلى تطهير المجتمع من عوامل التخلّف والتقاليد البالية والفساد المستشري وإلى توحيده على أسس واضحة والسير به نحو التقدم والإرتقاء والحياة الجميلة. لذلك يعّرفه سعاده بأنه “فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها”.[3]
وسعاده لم يرم بأن يكون حزبه كتلة عقائدية متحجِّرة غرضها التحجّر الفكري والتبجّح بالكلام وترديد الأقوال وتقديم النظريات المجرّدة في الحياة، فهو في هذا الخصوص يقول: “إن خطط الحزب السوري القومي الإجتماعي كما هي في فكر الزعيم وتخطيطه وتوجيهه وعمله لم ترم قط إلى إنشاء كتلة عقائدية متحجرة، بل إلى منظمة عقائدية تفعل إدارة وسياسة وحرباً لتحقيق غايته”.[4]
إذاً، سعاده أراد حزبه منظمة عقائدية فاعلة، منظمة صراعية هجومية مرتكزة على عقيدة أخلاقية جديدة هي العقيدة القومية الإجتماعية الشاملة للمبادىء الجديدة الموّحدة للشعب والمتمحورة حول حياة الأمة وهويتها وقضيتها ومصالحها. هذه المبادىء ليست خطة سياسية يمكن العمل بها او التخلي عنها وهي ليست أفكاراً مجردة أو “صوراً جميلة على الورق، بل قوة فاعلة في الحياة”[5] غايتها وحدتنا وحريتنا وسيادتنا على أنفسنا وتحسين حياتنا والسير بنا إلى حياة العز والتقدم والفلاح. لذلك يصف سعاده حركته القومية بالحركة “التحريرية”، الفاعلة، حركة النهوض القومي، حركةُ الصراع والانتصار. ويقول: إنها “حركة صراع لأنها حركة حرية، وحركة انتصار لأنها حركة حق.” والانتصار لا يتحقق بالأقاويل والتمنّيات بل بالأعمال والعطاء والتضحية والتفاني وبوقفات العزِّ والبطولة والعنفوان.
والحزب الذي أراده سعاده كحركة صراع وانتصار، هو حزب المؤسسات القومية الجديدة الصالحة والمرتبطة بمبادىء الحزب وغايته لتحل محل المؤسسات التقليدية العتيقة القائمة في المجتمع السوري. وهذه المؤسسات القومية لا معنى لها بدون إرتباطها بفكر الحزب وبقضيته القومية. فالمؤسسات بلا قضية تخدمها لا فائدة منها. ولقد أوضح سعاده ان أهم عمل أساسي قام به بعد تأسيس القضية القومية كان “إيجاد المؤسسات الصالحة لحمل مبادىء الحياة الجديدة وحفظ مطالبها العليا وخططها الأساسية”[6]. إذا، سعاده أراد حزبه أن يكون حزب المؤسسات القومية القادرة على إدارة العمل القومي وعلى الخلقِ والإبداعِ، مؤسسات منظمة ومتخصصة توحّد جهود العاملين للقضية القومية الإجتماعية وتوثّق المصالح القومية الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والمالية وغيرها وتوحّدها وتصونها وتبتدع الخطط والقواعد العلمية لزيادة إنتاجها وتوسيعها وتطويرها في خدمة مصلحة الأمة التي هي على أساس كل نظام وتنظيم.[7]
والحزب الذي أراده سعاده هو حزب العقلية الأخلاقية الجديدة والمناقب الجميلة التي تفيض بها النفوس وتنهض بها الأمم والقوميات. ألم يصف سعاده حزبه بالحركة التجديدية في المناقب والأخلاق…؟ أليس هو القائل: “إنّ نهضتنا هي نهضة أخلاق ومناقب في الحياة قبل كل شيء آخر.؟”[8]
والحق نقول، أن الأخلاق الجديدة هي أخلاق الآخاء والوئام والتعاون والمحبة القومية الصادقة والتسامح القومي، أخلاق الوضوح والصدق والصراحة، أخلاق العطاء والتضحية والبطولة والرجولة والإقدام، أخلاق الانسان النهضوي الطافح خيراً وحقاً وجمالاً وعزيمة ومناقب.. لذلك يؤكد سعاده: ان “الحركة القومية الاجتماعية لم تنشأ لخدمة الموتى وإحياء المثالب، بل نشأت لإحياء المناقب الجميلة السامية وقتل المثالب لتحيا أمة عظيمة بأجيالها المتجددة بالتعاليم الجديدة المحيية.”[9]
حزب أنطون سعاده ليس حزباً طارئاً نشأ بإرادة أجنبية ولأغراض خصوصية، بل هو حزب أصيل نشأ بإبداع رجل عبقري حملَ هموم الأمة كلها وعبَّرَ عن حقيقتها وأراد تحقيق آمالها وأحلامها ورغائبها. إنه حزب قضية حقة، وأساس هذه القضية هو في العقيدة المناقبية – في مبادئها، التي لا قضية بدونها. وهذا الرجل الذي امتلأت نفسه النبيلة بالحب والإخلاص والآمال المشعّة، أرادَ أن ينقذ أمته من ويلاتها وأعدائها وأن يحقق لها حياة العزِّ والإنتصار لأنه آمن أنه لا معنى للحياة إن لم تكن حياة عزّ وحرّية، وحياة شرف وكرامة. لذلك قال: “نشأنا نبحث عن القتال ولا يبحث عنّا القتال أبداً، نشأنا، وفي نشأتنا عزّ هو كلّ معنى وجودنا ولسنا بمتنازلين عن معنى وجودنا لشيء في العالم.”[10]
وحزب أنطون سعاده ليس حزباً فقيراً وضعيفاً يَستَمِدُّ قوته من الخارج أو من الحلفاء.. بل هو حزب غنيٌ بأخلاقه، وقويٌ بعقيدته الصحيحة ونظامه البديع، ومتينٌ بالوحدة الروحية الكلية التي تجمع القوميين الإجتماعيين في كل فكرة وفي كل نظرة في حياتهم والتي تربطهم معاً كعصبة واحدة. وإلى القوميين الإجتماعيين توجّه سعاده قائلاً: “أجل أنتم القوة في أنفسكم وإليكم يجب أن يسعى الناس، لا أن تسعوا أنتم نحو أشخاص آخرين.”[11]
هذه هي حقيقة الحزب السوري القومي الإجتماعي، حزب العقيدة والمناقب والأخلاق، حزب الأمل والإيمان واليقين، حزب الوعي القومي والعقل الشرع-الأعلى، حزب الخطة النظامية الدقيقة والجهاد القومي والمقاومة لأعداء الأمة المغتصبين، وحزب الشهداء والعطاء اللامحدود والبطولة الواعية في أزمنة الصعاب.. بطولة المصارعين المؤمنين ذوي النفوس الكبيرة الذين لا يرضون إلا حياة الأحرار والتي وضعت النهضة القومية الإجتماعية على أكتافهم عبئاً كبيراً عظيماً، لأنها تعرف أن أكتافهم أكتاف جبابرة وسواعدهم سواعد أبطال.
وهذا الحزب قدَّم تضحيات كبيرة على مذبح القضية القومية.. قدَّمَ شهداء وجرحى ومخطوفين.. ومعتقلين في سجون العدو المحتل.. ورغم التضحيات وآلاف الشهداء والجرحى، ورغم الآلام والسجون والتهجير وخسارة الممتلكات والأرواح.. لم يتخلَ القوميون الإجتماعيون عن حزبهم وقضيتهم المقدّسة لأنهم آمنوا انهم تعاقدوا معاً من أجل قضية عظيمة تساوي وجودهم من أجلها يقفون معاً ويسقطون كلهم معاً.
سعاده القدوة يوصينا بأن نصون حزبنا.. بأن نثق بأنفسنا وعقولنا وبأن نعتصم بإرادتنا ونكون أقوياء بوحدتنا لأن في وحدتنا إرادة أمة حية جديرة بالإنتصار. والزعيم الخالد يتوجّه إلى القوميين قائلاً: “ثقوا بأنفسكم، ثقوا بأن عقولكم ليست عقولاً مريضة، ثقوا بأن قضيتكم هي قضية حياتكم، ثقوا بأنفسكم قبل كل شيء، واعتصموا بإرادتكم قبل كل شيء، ولا تهتزّ أعصابكم حين الخطر، لأن الخطر في اضطراب الأعصاب.”[12] ويضيف: “إنكم ارتبطتم بعضكم ببعض وربطتم أرواحكم بعضها ببعض لأنكم تعملون في سبيل المبادىء التي جمعتكم بعضكم إلى بعض. فابقوا منضمين متضامين وكونوا عصبة واحدة أينما سرتم وكيفما توجهتم”.[13]
إن معركتنا هي مع أعداء الأمة الطغاة الطامعين في أرضنا وحقونا وثرواتنا ومع الخونة والفاسدين المنافقين والدّجالين الذين يفلسفون الباطل ويخرِّبون المجتمع بريائهم ومكرهم وأحقادهم ويتاجرون بالإنسان والوطن.
“إن أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على الأمم الحية فلا يكون لها إنقاذ منها إلا بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة.”[14] وهذه البطولة المناقبية المؤمنة متجسِّدة دائماً في عزيمة القوميين الإجتماعيين وتضحياتهم وفي نضالهم المميّز. فهي تُشكِّلُ مزية أساسية من مزايا النهضة القومية الإجتماعية التي جعلت مهمتها العظمىى سحق التنين الخبيث المتعدد الرؤوس والذي يمثل الأباطيل.
الأمين د. ادمون ملحم
رئيس الندوة الثقافية المركزية
[1]“لا مفر من النجاح”، الجيل الجديد، بيروت، العدد 10، 17/4/1949.
[2] خطاب الزعيم في أول آذار، كل شيء، بيروت العدد 101، 04/03/1949.
[3] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948 (سلسلة النظام الجديد 2)، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الإجتماعي، بيروت 1976، ص 30.
[4] راجع رسالة الزعيم إلى غسان تويني بتاريخ 9 تموز 1946 منشورة في “أنطون سعاده في مغتربه القسري 1946” (الآثار الكاملة -13)، مؤسسة فكر للأبحاث والنشر، بيروت 1984، ص 314.
[5] المرجع ذاته، ص 36.
[6] سعاده في أول آذار 1956، ص 47.
[7] أنطون سعاده 1932-1936، الآثار الكاملة- الجزء الثاني، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الإجتماعي، طبعة أولى، بيروت 1976، ص 242-243.
[8] إعلان وإيضاح العلاقة مع جبران مسوح، الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 82، 4/11/1944.
[9] سعاده، “الحزب السوري القومي الاجتماعي لا يقبل المثالب”، الزوبعة، بويُنس آيرس، العدد 79، 12/8/1944. مغتربه القسري، الآثار الكاملة، الجزء 12 (1944-1945)، ص 26.
[10] فقرات من خطاب الزعيم في رأس بيروت بمناسبة أول مارس، كل شي، بيروت العدد 102، 12/3/1949
[11] خطاب الزعيم في الشوف، 19/01/1937
[12] المرجع ذاته.
[13] المرجع ذاته.
[14] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 25.