الأقنعة الدولية للتدخلات الإمبريالية

الأقنعة الدولية للتدخلات الإمبريالية

تعود لعبة الأقنعة الدولية للتدخلات الغربية إلى قرون خلت وفي المراحل التي سبقت هذه الإمبريالية نفسها، فـ بإسم حماية القبر المقدس شنت الممالك والإمارات الإقطاعية الأوروبية حملاتها على الشرق المعروفة بالحملات الصليبية (الكاثوليكية في الواقع)، حيث أبادت في طريقها مئات الآلاف من الأرثوذكس في اليونان وبلغاريا وبيزنطة، وباسم حماية الإسلام اجتاح العثمانيون الشرق العربي برمته وأنهوا دولة المماليك التي كانت (أكثر سنية منهم).

وعندما انطلقت حملات الاكتشافات الجغرافية الاسبانية والبرتغالية وقام تجار بريطانيا وأوروبا بشراء نزلاء السجون وإرسالهم إلى الأمريكيتين لتجفيف المستنقعات وإبادة ملايين السكان الأصليين  فعلوا ذلك باسم الكنيسة ضد الكفار (الهنود الحمر).

مع ازدهار الرأسمالية وظهور أنيابها المتوحشة ضد (العالم القديم) في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، برروا هذا الاستعمار بتمدين المتوحشين، واخترعوا نظريات عرقية انثروبولوجية بالاتكاء على التوراة، شعب متحضر (شعب الله المختار) ضد برابرة من (الغوييم، عبيد سارة) الأغيار.

في الحقبة التالية من تطور الرأسمالية إلى الإمبريالية، أي الرأسمالية المالية واقتصاد الانثروبولوجيا المعرفية العرقية، اتخذت الرأسماليون من البعد الدولي غطاء لاستعمارهم وحروبهم الإجرامية، سواء بعد الحرب العالمية الأولى أو الثانية.

فبعد الحرب الأولى ومؤتمر فرساي 1919، أنشأت الدول الإمبريالية المنتصرة عصبة الأمم وأنشأت معها أشكالا وأقنعة مختلفة مثل نظام الانتداب الذي كان استمرارا للسياسة العرقية، شمال متحضر وجنوب متخلف يحتاج إلى وصاية دولية.

كما أضفت شرعية على السياسات الاستعمارية وأدواتها، مثل صندوق اكتشاف فلسطين، الذي لم يكن سوى واجهة بريطانية لتمويل الاستيطان اليهودي في فلسطين.

وكررت الرأسمالية السياسات والأساليب نفسها بعد الحرب الثانية، وحولت الإطار الدولي الجديد، هيئة الأمم المتحدة إلى منصة دولية لإضفاء شرعية على مصالحها وأدواتها ووصف كل من يناهض ذلك بالخروج على القانون الدولي، وكان من أخطر الأدوات التي استخدمها الإمبرياليون بالاتكاء على هذا النظام الدولي الجديد:

  • اقتصاديا، نظام بريتون وودز ومخرجاته الثلاثة: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ونظام مالي ونقدي في خدمة الدولار الأمريكي، ولأن واشنطن راحت تسوق وكالة اليو اس ايد، الذراع الاقتصادي للمخابرات الأمريكية كهيئة معونات دولية.
  • عسكريا، اختراع قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، وما هي في الحقيقة سوى غطاء للإمبريالية وجرائمها ضد الشعوب وحركات التحرر، كما رأينا في الحرب الكورية وفي أزمة يوغوسلافيا وقبلها أزمة الكونغو وغيرها، وليس بلا معنى ما قاله وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، ماكنمارا، الذي شغل أيضا منصب رئيس البنك الدولي ثم مستشارا للناتو، أنه لا يفرق كثيرا بين قوات الأمم المتحدة والناتو ونصائح البنك الدولي.
  • في الثقافة، وبحسب كتاب ساندرز (من يدفع للزمار)، وكتاب (الدعارة الأكاديمية) لكوستلر، فإن مطابخ المخابرات الأمريكية والبريطانية على الجبهة الثقافية (مجلات، مراكز دراسات، منتديات، جوائز، أوساط أكاديمية وليبرالية تسوق كهيئات ثقافية مستقلة).
  • ومثل ذلك، مئات بل آلاف المراكز والمنظمات العاملة باسم حقوق الانسان والصحافة الاستقصائية والنساء والجماعات الاثنية، التي تسوق كممثل للمجتمع المدني والمواطنة والشفافية والحوكمة وكل ما بات يعرف بالمجتمع الدولي غير الحكومي.
  • في الأيديولوجيا كان الغطاء الدولي واسعا ومتنوعا، تنوع الساحات والثقافات وكذلك الخيارات الرأسمالية نفسها.
    فمقابل تدويل الليبرالية الفرانكفونية العلمانية عند فرنسا، اختار الانجلوسكسون انماطا متضاربة للتدويل الأيديولوجي بحسب الجغرافيا البشرية شمالا وجنوبا، ففي الدوائر البريطانية المحض، علمانية المادية الوضعية، وفي الدوائر الأمريكية، المادية البراغماتية، وفي جنوب العالم وشرقه اختاروا اللعب على الدين: اليهودية كبافر ستيت استيطاني في فلسطين، والبابا بولس الثاني في بولندا ضد موسكو، والإسلام الأطلسي الوهابي الإخواني بين أفغانستان والصحراء الكبرى في افريقيا مرورا بالشرق الأوسط.
  • أما ثالثة الأثافي كما يقال، فهي كذبة السلام العالمي، الذي يحتاج بين الحين والحين في الخطاب الامبريالي إلى عمليات جراحية هنا وهناك.
    على غرار القنابل الذرية الأمريكية على المدن اليابانية، والسائل البرتقالي الأمريكي الذي أباد عشرات الآلاف من الفلاحين في فيتنام، واليورانيوم المنضب في العراق والذي أعاد الانجليز الاسترشاد به في أوكرانيا، كما فعل سلفهم المجرم، بلير.
    ولا تعوز الامبرياليون وعقولهم الاستخباراتية الحيلة في تأصيل كل شيء لهذا المفكر أو ذاك.
    وإذا كان جون لوك مرجعيتهم في تسويق كذبة الليبرالية، الحريات السياسية مشروطة بحريات الأسواق، فقد اختطفوا من الفيلسوف الألماني كانط، فكرته عن السلام العالمي، وهكذا..

ومن قبل ومن بعد، بوسع المهتمين أكثر في فضح أقنعة التدويل الامبريالي للمؤسسات الدولية العودة إلى كتاب (السر الأكبر) للبريطاني ديفيد ايكه، الذي لم يترك لا شاردة ولا واردة حول هذه المؤسسات بما في ذلك منظمات مثل البيئة والصحة العالمية.