بات استجداء اللايك قاتلاً. هناك في مجتمعنا من هو مستعد للتخلي عن الاخلاق والمبادئ وربما ما هو اكثر من ذلك من اجل لفت النظر، وجذب المتابعين، وكسب اعجابهم او حتى كسب تعليقهم ولو كان سلبيًا. الاستهانة بما يحصل هو استهانة بمستقبل جيل كامل ينشأ ويشاهد النفور والشذوذ في تقديم المحتوى، ويمكن أن نطلق هنا على ما يحصل بأنّه آفة العصر النفسيّة.
من الطبيعي أن يسعد الإنسان بفكرة أنّه شخص معروف أو مشهور لميزة لديه أو موهبة أو حتّى مهنة ترفع باسمه عاليًا عن باقي أفراد المجتمع، وبالتالي تضفي عليه تلك الشهرة شعورًا بالتقدير وتعزّز ثقته بذاته والرضى عنها.
لكنّ السعي وراء الشهرة لدرجة الاستماتة في سبيل الحصول عليها، وفي حال وجود محتوى لائق ومتميّز أو عدمه، يطرح علامات استفهام. نخرج من إطار الشعور الطبيعي (السوي) أكثر فأكثر حين يستباح بالمحظورات الاجتماعيّة والأخلاقيّة، بالعادات والتقاليد، بالمقبول وغير المقبول رؤية وسمعًا في سبيل تلك الشهرة: تصل أحيانًا كثيرة حدّ السلوكيات المنافية للقناعة والمبادئ الذاتية لذلك الساعي، أو في أحيان أكثر حد ارتدائه قناعًا لشخصية غير مطابقة لشخصيته الحقيقية.
نستثني هنا حالات السعي للمكسب المادي، فهذا ينطوي تحت خانة العمل التجاري واستخدام الشهرة كمصدر رزق، بمنأى عن الأساليب التي يتم استخدامها للحصول على الانتشار والشهرة الواسعة.
يتبيّن هنا أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت ملأى بأفراد يذهبون لأقصى مراحل استرخاص النفس والتهريج بالذات أمام الملأ من أجل تجميع أكبر عدد من الإعجابات والتعليقات. ونشاهد آخرين بإيحاءات جنسيّة وعري وألفاظ نابية وأسلاب وفيديوهات أقصى ما تجسّد الانحلال الأخلاقي بهدف الانتشار وشهرة أصحابها.
على صعيد آخر، نلاحظ المنافسة على إظهار وتصوير عمل مساعدة الفقراء والمشرّدين حتّى حين إعطائهم كسرة خبز أو قضمة لحم لا تستأهل فعل تصوير مقاطع فيديو لهكذا إنجازات. ناهيك عن تصوير الحياة اليومية واستخدام الأطفال والأبناء في مقاطع تحمل أحيانًا حد الأذى لطفولة الأبناء والتأثير على حريتهم وخصوصيتهم وعيشهم لسنهم الطبيعي.
مباشرةً يخرج الينا السؤال التالي: هل يعيش هؤلاء الأفراد حياة اجتماعية بعلاقات إنسانيّة صحيّة؟
ثانيًا، ماذا يخبّئ هوس الشهرة وحب الظهور خلفه على الصعيد النفسي؟
إن تعمّقنا قليلًا، ومن منظار التحليل النفسي الفرويدي، فإنّ أوّل ما يسعى إليه الطفل هو نظرة التقبّل من الإنسان الأوّل في حياته وهو الأمّ، هي نظرة الاهتمام، هي نظرة العاطفة، هي نظرة “أنت مهم” لك وجود وقيمة في حياتي. هذه النظرة هي الأساس والجذور لشخصية ذات ثقة بالنفس وتقدير ذات مرتفع: فأثناء مرحلة الطفولة وفي حال لم يحصل الطفل على اهتمام أو عاطفة، أو عانى حالة الطفل “غير المرئي”، بمعنى أنّه لم يكن له رأي أو كيان، وغير حاصل على كمّ مناسب من الانتباه، سيؤدي كل ذلك إلى احتمالية إنسان راشد دائم السعي بشكل غير واعٍ للاعتراف بوجوده من قبل الآخرين. بمعنى آخر، فإن قيمته الذاتية وثقته بها مرتبطة باعتراف الآخرين به وبوجوده، فيحاول التعويض عن النقص في تقدير ذاته من خلال إثبات أنّه إنسان مشهور ومعروف ويُحكى عنه.
هذا وقد يسوء الحال ببعض الأفراد أنّهم يبالغون بنشر محتوى هم على يقين بأنّه سيجذب التعليقات السلبية والإهانات نتيجة محتواه غير المقبول اجتماعيًا. فالهدف هو مجرد الشهرة سواء كانت بشكل ايجابي أو حتى سلبي متضمنًا النقد اللاذع.
وليست مرحلة الطفولة والعلاقة السيئة مع الوالدين سببًا وحيدًا لاضطراب الثقة بالذات وتقديرها، بل التعرض للرفض من قبل الأصدقاء في مرحلة المراهقة والتنمّر الذي قد يحصل في المدارس والصدمات النفسية المختلفة قد تسبّب خللًا على الصعيد النفسي، ينتج بالتالي عنه العطش للشهرة وحبّ الظهور.
على صعيد آخر، هناك فئة عادة ما تعاني من انغلاق اجتماعي وعدم وجود أصدقاء وعلاقات اجتماعة لأسباب مختلفة، منها اجتماعيّة واقتصاديّة أو حتّى سمات شخصيّة، فنرى تلك الفئة فعّالة على وسائل التواصل أكثر من غيرها، محاولة التعويض بحياة افتراضيّة تشعر بها بالتقبّل عبر عدد الإعجابات (لايكات) والتطبيقات والتفاعل المرتفع، فكلّما كان التفاعل مرتفعًا انخفص معدّل القلق النفسي الناتج عن مشاعر النقص المكبوتة.
ختامًا فإن السلوكيات البشريّة بشكل عام هي صحية طالما اقتربت من الوسطيّة، أمّا الغلو في السعي، مبرّر الوسائل كافة، يميل بالإنسان نحو الاضطراب. فالحاجات البشرية كما يقول عالم النفس الأميركي (ماسلو) هي طبيعيّة، ومن ضمنها الحاجة إلى التقدير. ويمضي بعدها إلى ذكر الحاجة الذاتية إلى التميّز والتفرّد، حيث تقترن حاجات تحقيق الذات اقترانًا وثيقًا بالسعي وراء الشهرة وحبّ الظهور، لكنّ السعي المستميت والتضحية بالأعراف والمبادئ الأخلاقيّة والإنسانيّة قد تخفي إحباطًا أو اضطرابًا نفسيًا غير مشخّص بحسب “ميتش بريشتاين” أحد الباحثين البارزين في علم النفس.