الصوم معالجٌ نفسي

يُحكى كثيرًا عن الأثر الايجابي للصيام على الصحة الجسدية للصائم، وكيف من المفترض أن يُطهّر خلال هذا الشهر من السموم والدهون وتتجدّد الدورة الدموية فيه من جديد. ولكن ما لم يتم التركيز عليه سابقًا رغم اثارته في اكثر من مناسبة هو الأثر الايجابي جدًا للصيام على الصحّة النفسيّة لمن يمارس هذه الفريضة الدينية طوال شهر كامل كل عام، فكيف يتأثّر الصائم نفسيًا؟

يعتبر علماء النفس التنموي أنّ ضبط النفس هو أحد جوانب الذكاء العاطفي، وهو يلعب دورًا مهمًّا في حياة الإنسان ونجاحه، بما في ذلك السيطرة على ردود الأفعال واتخاذ قرارات صائبة. فتطوير مهارة ضبط النفس يتطلب قوة إرادة وتصميم، وهو ما يمارسه الفرد خلال شهر رمضان من حيث التدرّب على الصبر، وهو من ركائز النجاح للوصول إلى الأهداف المرجوّة، بالإضافة إلى السيطرة والتحكّم بردود الأفعال وخاصة الغضب، حيث لا يقتصر الصوم على الامتناع عن الطعام والشراب، ولكنه يشمل أيضًا الامتناع عن ايذاء الآخرين لفظيًا وجسديًا، ناهيك عن التحكم بالغرائز والشهوات والسيطرة عليها، مما يؤدي في النهاية إلى تعزيز الانضباط الشخصي وزيادة الشعور بالسلام والهدوء الداخليين.
أظهرت الدراسات أنّ الصيام يساعد على تعزيز الوظائف العقليّة، حيث يعمل على تقوية الذاكرة وزيادة التركيز وتحسين الانتباه، فانقطاع الطعام والشراب يقلل تدفق الدم المحمّل بالأوكسيجين إلى الجهاز الهضمي وزيادة ضخ الأوكسيجين إلى المخ. كذلك فإنّ الصيام يعمل على تعزيز انتاج بروتين BDNF والذي يساعد على إنتاج خلايا جديدة بالمخ، وحماية الخلايا الدماغية وتعزيز الترابط بينها، مما يقوي الذاكرة والقدرة على التعلّم (بحسب دراسة نشرتها مجلّة Nutritional biochemistry).
هذا وثبت أيضًا أنّ الصيام يجعل الغدة الكظرية أقلّ انتاجًا لهرمون الكورتيزول، والذي ترتبط مستوياته المرتفعة بتقلّب المزاج والشعور المستمر بالتوتر والقلق. وعندما يزداد تدفق الدم إلى المخ خلال ساعات الصيام، يحفزه ذلك على إفراز هرمون الدوبامين الذي يساعد على تهدئة الأعصاب والشعور بالاسترخاء والسعادة. كما وأنّ ممارسة الرياضة تساهم في علاج الاكتئاب، حيث أنّ النشاط الجسدي يساعد الغدة النخامية الموجودة في المخ على انتاج هرمون الأندروفين، وتوصلت الدراسات إلى نتائج مماثلة حين يصوم الإنسان لمدة تتراوح بين خمسة وعشرة أيام، حيث يزيد ذلك من مستويات هرمون الأندروفين والذي يساهم بدوره في السيطرة على أعراض الاكتئاب.
وقد نشر موقع research gate دراسة حول تأثير الصيام على القلق والاكتئاب والوظائف المعرفية وشملت عشرين طالبًا صائمًا في معهد little flowers الطبي للعلوم والبحوث، وذكرت أنّ معدلات الاكتئاب والقلق والضغط العصبي انخفضت بنجاح في اليوم الرابع عشر من شهر رمضان وتحسنت مستويات الوظائف المعرفية بشكل واضح في اليوم الثامن والعشرين من الشهر.
وعليه، يأتي الصيام في شهر الرمضان ليحفّز الجسد على التخفيف من عوارض الإكتئاب وكذلك ليرفع من مستوى الاسترخاء، ما يعني أن الصيام يساهم دون شك في دفع الفرد نحو اتخاذ قرارات اكثر هدوئًا ودرايةً ما يرفع من انتاجيته ويخفّف من سقطاته في ميادين عمله أو حتى في تسيير أمور حياته. للصيام ايجابيات وانعكاسات بنّائة على حياة الصائم اليومية، تمامًا على عكس الفكرة المعمّمة أنه يزيد من توتّر الافراد ويشنّج علاقاتهم بمحيطهم في ساعات النهار.