انطلاقاً من فهم دقيق لطبيعة الاحتلال الأميركي ومستوى قوة اميركا ، تُدرك الدولة السورية وحلفائها ان الذهاب الى مواجهة مباشرة مع الجيش الأميركي هو أمر خارج القدرة خصوصاً في ظل انتشار الجيش العربي السوري على كامل الأراضي السورية ، وفي ظل وجود جبهة عسكرية مفتوحة مع الجماعات الإرهابية في ادلب واريافها وما تبقى من ارياف حلب تحت سيطرة الجماعات الإرهابية ، إضافة الى الوضع الأمني المفتوح في بعض مناطق الجنوب السوري ، وحجم المهام الأمنية الملقاة على عاتق الجيش والقوى الأمنية في مناطق سيطرة الدولة ، وهذه كلها أسباب موضوعية تقف عائقاً امام فتح مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال الأميركي .
إضافة الى ما ورد أعلاه فمّا لا شك فيه ان تحالف ” ميليشيا قسد ” مع الأميركيين يؤمن للأميركي موطيء قدم مستقر الى حد كبير الى جانب عدم حسم قسم كبير من المرجعيات العشائرية موقفه حيث ينضوي جزء منهم في قوات ” قسد ” لأسباب مختلفة .
ولكل هذه الأسباب تبنّت الدولة السورية نمط المقاومة الشعبية دون ان تُعلن موقفاً علنياً لعدم إعطاء الأميركي الذرائع التي يريدها لإستهداف مؤسسات الدولة ومواقع الجيش العربي السوري .
لكن منذ العام 2021 وعلى الرغم من عدم تبلور مقاومة مقيمة محتضنة من البيئة الشعبية بشكل مباشر بدأنا نشاهد ارهاصات عمل مقاوم يقتصر حتى اللحظة على القصف الصاروخي وبعض العمليات بطائرات مسيّرة صغيرة الحجم وهو النمط المستمر منذ سنتين إضافة الى بعض العمليات بنمط زرع العبوات الناسفة لإستهداف آليات القوات الأميركية .
امّا ماذا اقصد بالمقاومة المقيمة فهو النمط الذي تتبعه المقاومة في لبنان وفلسطين والذي اتبعته المقاومة العراقية في مرحلة من مراحل الاحتلال الأميركي للعراق والتي تعمل من داخل البيئة الشعبية الحاضنة لعمل المقاومة ، في حين انّنا حتى اللحظة امام مقاومة وافدة وان كان بعض عناصرها من مناطق شرق الفرات الاّ انهم يعملون من خارج نطاق جغرافيا أهلهم وبيئتهم بشكل مباشر .
تزامناً مع انطلاق بعض العمليات العسكرية صدرت نداءات سورية ومنها نداءات رسمية لسكان المنطقة بضرورة تنظيم حراك شعبي ضدّ المحتلّين، عبر اعتراض الدوريات الأميركية على الأرض، ورميها بالحجارة والتظاهر ضدّها، كنوع من التعبير المدني عن رفض الاحتلال. إلا أنه مع عدم حدوث أيّ تغيير جدّي على الأرض بفعل تلك الخطوات، اتّجهت الأمور نحو التصعيد العسكري ضدّ القوات الأميركية، من خلال خمس عمليات استهداف لقواعدها خلال أقلّ من أسبوعين، أربع منها في حقل العمر، والخامسة في حقل كونيكو، في ريف دير الزور الشرقي. وأنبأت هذه العمليات، التي أربكت الجنود الأميركيين وقيّدت حركتهم، بتنامٍ لافت في مستوى فعل المقاومة وشكله اللذين من المرجّح أن يشهدا تصاعداً إضافياً خلال الفترة المقبلة، وصولاً إلى استهداف الدوريات الأميركية بشكل مباشر، أو حتى الشاحنات التي تقلّ آليات وذخائر وموادّ غذائية قادمة عبر الحدود، في استنساخ لنموذج المقاومة في العراق.
حينها بدأت واشنطن تستشعر خطر العمليات المتصاعدة ضدّها هناك، إذ إنها بدأت تعزيز وجودها ورفع جاهزيتها العسكرية لتدارك الخطر المحدق بها، فيما لوحظت زيادة عدد المنظومات الدفاعية الجوية بهدف التصدّي للصواريخ والطائرات المسيّرة المفخّخة. كما استقدمت القوات الأميركية تعزيزات عسكرية إضافية من العراق، غالبيتها عبارة عن شاحنات تحمل ذخائر وآليات على متنها معدّات وذخائر وأسلحة حدود، منذ بداية الهجمات على القواعد الأميركية في المنطقة .
منذ أيام كنا امام تحوّل هام حيث أعلنت القوات الأميركية عن مقتل احد المتعاقدين معها ما استدعى تنفيذ غارات على مواقع فصائل حليفة للجيش السوري تقول اميركا انها تابعة لإيران وهو ما فتح الأمر على مشهد مختلف حيث من المرجّح ان نكون امام سلسلة ردود تستهدف القواعد الأميركية ولكنها برأيي ستبقى ضمن نمط الردع المتبادل ولن تنزلق الى مستوى المواجهة ، ولكنها في كل الأحوال ستكون متغيراً لا بد من متابعته والبناء على التحولات التي يمكن ان تنتج عن تغير نمط المواجهة .
من جهتها، تدرك “قسد” أنها ستكون المتضرّر الأكبر من أيّ انسحاب أميركي من الأراضي السورية، ولذا فهي تسارع دوماً إلى الترحيب بالدعوات الروسية للحوار مع دمشق، مع نفي فكرة وجود أيّ مقاومة شعبية للوجود الأميركي، واتهام خلايا “داعش” بالوقوف خلف الهجمات ضدّ الأميركيين .
كما أن “قسد” تريد، من وراء الترويج لمسؤولية “داعش” عن العمليات الأخيرة، ضمان دعم غربي وأميركي إضافي لقوّاتها في المنطقة، وإقناع الأميركيين بالبقاء أطول فترة ممكنة لمنع أيّ تحركات جديدة للتنظيم. لكنّ استمرار عمليات الاستهداف العسكري للوجود الأميركي في سوريا، مع احتمال تطويرها وتزخيمها، كل ذلك يضع شرق الفرات أمام سيناريوَين اثنين: انسحاب أميركي تدريجي من المنطقة، أو استقدام أعداد إضافية من الجنود مع تعزيزات عسكرية جديدة، لمواجهة التهديد المتنامي هناك .
وربطاً بالتطورات فإن الحل الوحيد لمشكلة الاحتلال الأميركي هو نشوء مقاومة مُحتضنة من البيئة الشعبية المباشرة والاّ فإننا سنكون امام مسارات طويلة من النمط الحالي ، فالتجربة علّمتنا ان الأميركي لا يمكن ان ينسحب الا تحت الضربات وعندما تبدأ توابيت جنوده بالوصول الى اميركا ، وعدا ذلك فالوضعية الحالية يمكنها ان تتطور بعض الشيء ولكنها قطعاً ليست الحلّ لطرد الأميركي وانهاء احتلاله .
عمر معربوني | خبير عسكري – خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية