التأسيس.. وعصر النهضة

يشكّل عيد تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي كلّ سنة، إعادةً لقراءة الأسس والعوامل التي بنى عليها الزعيم أنطون سعاده أفكاره قبل تأسيسه الحزب.

من هنا ستبدو هذه القراءة مسكونة بتساؤلات جوهرية: كيف يمكن مواجهة واقع وطننا في جانبه المأساوي؟ وهل من الحكمة أن يتنازل الإنسان عن أحلامه وعن هويته ويرضخ لشهوة الأصنام وتناقضات الواقع التي حطمها سعاده؟ وهل الهروب من الواقع إلى الخيال والتحرر من «اللوغس» وضوابطه المنطقية والسفر في عوالم «الميثوس» جنون أم حكمة؟

أسّس سعاده عبر استشهاده حالةً من الحضور المعرفيّ تمثّلت أوّلاً بإنتاج معرفة «مزعجة” فكّكت ما وراء الوجه البشريّ المتوحّش الاستبدادي/ الاستعماريّ، ومكّنته من أداء دور سوسيولوجيا العموم، أي السوسيولوجي الّذي ينتج معرفة عن الناس/ المجتمع.

بديهي أنّ ثمة إشكاليات كثيرة في فهم رسالة سعاده التأسيسية، ولكن قبل الدخول في قراءة وفهم ظاهرة إطلاقه حركة العقل في بلادنا، نرى أنفسنا أمام أسئلة بُنيوية لا يمكننا كقوميين الهروب منها في مواجهة الراهن.

أهمّ هذه الأسئلة هي: هل يبدو فكر سعاده وهو النهضوي علمياً، يتسع لكلّ فئات مجتمعنا وعابراً للانتماءات المختلفة؟ هل هو ملائم لهذا التبدّل الهائل في الأفكار والقيم والاتجاهات في الألفية الثالثة؟ هل نحن في حاجة إلى إعادة استكشافه كمفكر وصاحب نظرية متكاملة؟

ومن الأسئلة الراهنة: هل أصبح المسرح السوري كله هذه المرة ساحة لعقيدته في عصر العولمة؟ ثم كيف نقرأ فلسفة سعاده قراءة عصرية؟ كيف نجعله متوافقاً مع المستجدات والمتغيّرات؟

في ضوء هذه الأسئلة كيف نفهم ما قاله سعاده: إنّ المبادئ ليست قوالب نهائية للعقل وليست أصناماً جامدة، بل هي قواعد لانطلاق الفكر.

إنّ طرح أيّ قراءة راهنة جديدة لمبادئ الحزب، إنما يجب أن تُبنى على قراءة فكر ما قبل التأسيس، وقراءة جهود الآخرين وما قدّموه من أفكار خلّاقة، أيّ عصر روّاد النهضة، من بطرس البستاني إلى خليل سعاده، وأمين الريحاني وجبران خليل جبران، وتاريخ الفكر بناء مستمرّ وحلقات متتابعة. ولا شيء يأتي من الفراغ.

إذاً، هناك ثلاث مراحل رئيسة لتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي:

أولاً: أفكار النهضة في القرن التاسع عشر.

ثانياً: قراءة تلك المراحل لفهم آلية تطوّر فكر الزعيم أنطون سعاده.

ثالثاً: مرحلة التأسيس في السادس عشر من عام 1932.

منهجية تفاعل هذه المراحل الثلاث، تفرض على الباحث الدخول في التفاصيل، تفكيك العام ومناقشته. ولكن المجال لا يتّسع هنا. لذلك، سنكتفي بتسليط الضوء على نقاط رئيسة عدّة.

ففي رسالته إلى محاميه حميد فرنجية، من سجن الرمل في 10 كانون الأول 1935، يشرح سعاده أسباب تأسيسه الحزب والتي يلخصها بالسؤال التالي: «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟».

من هذه الرسالة، تتّضح مسائل تحتاج إلى شيء من الدرس. فالمسألة الأخصّ تتّضح من العبارة هذه: «إنّ الحزب لم ينشأ خصّيصاً لأنّ الانتداب موجود، بل لجعل الأمة السورية موحّدة وصاحبة السيادة على نفسها والإرادة في تقرير مصيرها. ولمّا كان الانتداب أمراً عارضاً، فإنّ النظر في موقفه وموقف الحزب منه يأتي في الدرجة الثانية أو الطور الثاني، السياسي».

إنّ الفكر القومي الاجتماعي الذي أسّس سعاده الحزب لحمايته ولتحقيقه في المجتمع، والذي تناول عدد من القوميين والأصدقاء، بعضاً من أغراضه ومقاصده وأهدافه وغايته، شمل ـ إضافة إلى ذلك ـ تحديداً لمواقفه من كلّ القضايا والأفكار والعقائد، كما حدّد نظرته إلى العلاقات مع أمم العالم العربي، ومع أمم العالم. وكذلك حدّد نظرته وموقفه من الصراع العالمي، ووضع النظرية التي تقول بتفاعل المجتمعات الإنسانية وفق مصالحها المشتركة، أي أنه تناول كلّ ما يتعلق بالأمة وحياتها ووجودها، وما يتعلق بدورها في العلاقات الدولية وفي المجتمعات الإنسانية.

في محاضرة له في بيونس آيرس ـ الأرجنتين عام 1939، ذهب سعاده إلى أبعد من ذلك وأعلن: «إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي ليس حزباً سياسياً من دون صفة ثابتة، بل هو أكثر من ذلك قليلاً، هو حركة الشعب السوري الدافعة به ليحتلّ مركزه في العالم، هو رسالة الشعب السوري إلى سورية أولاً وإلى العالم أجمع، رسالة الحرّية والوحدة والواجب والنظام». إذ إنّ عقيدة الحزب معنيّة بالمجتمع السوري وبالمجتمعات الإنسانية كافة، وهي للوجود الإنساني بمجتمعاته المتلاقية والمتباينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *