قبل قرون من الصياغة الأكاديمية لمصطلح القوة الناعمة الذي قدمه عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي، كانت قوة الصين الناعمة فاعلة في بقاع شتى من العالم، وتحديدا في المناطق الواقعة في امتداد غرب الصين وفقا لخرائط الجغرافيا الصينية التي تضع الصين أو “تشونغقوه” أي الدولة الوسطى في قلب العالم. وإذا كانت القوة الناعمة في عموم تعريفاتها هي القدرة على الاستمالة بدلا من الإكراه وتشكيل تفضيلات الآخر من خلال الجاذبية والإعجاب، وليس بالقسر والإرغام، فإنه في القرن الأول قبل الميلاد، كان الحرير الصيني اختيارا طوعيا لملكة مصر الشهيرة كيلوباترا لصنع ملابسها، كما كانت أواني الخزف هي ثاني أكبر صادرات الصين إلى مصر، بعد الحرير. الاسم المستخدم حتى اليوم في الدول العربية للخزف هو “الصيني”، كما أن المشروب الأكثر تفضيلا في العالم والذي يسميه العرب “الشاي” يحمل نفس اسمه كما يُنطق بالصينية “تشا”.
القوة الناعمة ترتبط غالبا، مدا وجزرا، بصعود وانحطاط الأمم. الصين أمة ذات حضارة عريقة، وكغيرها من الأمم شهدت انحطاطا وصعودا في تاريخها الممتد لأكثر من خمسة آلاف عام، وانعكس ذلك على قوتها الناعمة وتأثيرها العالمي. وتعد الموارد البشرية والمنتجات الثقافية والإبداعية والإسهامات الفكرية أبرز عناصر القوة الناعمة الصينية، وقد لعبت هذه العناصر منفردة ومجتمعة الدور الأبرز في تشكيل قوة الصين الناعمة في المنطقة العربية. في سنة 137 قبل الميلاد أرسلت الصين أول مبعوث لها إلى مصر، وفي السنة التالية أرسل وو دي، سادس أباطرة أسرة هان الغربية مبعوثا إلى المناطق الواقعة غرب الصين بهدف تمتين العلاقات معها. في ذلك الوقت، كان قد تشكل ما سُمي لاحقا بطريق الحرير البري وطريق الحرير البحري وصار الطريقان الرابط الأهم بين الشرق والغرب، وانتقلت عبره إبداعات وأفكار وتقاليد الأمة الصينية. وكانت المنطقة العربية هي الحامل الذي نقل مخترعات الصين الكبرى الأربعة، الورق والبوصلة والبارود والطباعة، إلى أوروبا. وفي فترة أسرة مينغ قام البحار الصيني تشنغ خه بسبع رحلات بحرية عبر المحيط الهندي، ووصلت سفنه إلى أصقاع عديدة في آسيا وأفريقيا. في القرن السادس عشر، مع الرحلات الاستكشافية البحرية الأوروبية، انعزلت الصين عن العالم، قبل أن تعود إليه في النصف الثاني من القرن العشرين قوة سياسية واقتصادية وعسكرية وبحرية عظيمة، لتعيد اكتشاف قواها الناعمة.
في النصف الأول من القرن العشرين، وبعد ثورة شينهاي في الصين سنة 1911، تجددت القوة الناعمة الصينية في المنطقة العربية، وذلك من خلال بعثات الطلاب الصينيين المسلمين إلى الأزهر الشريف في مصر. في العشرين من ديسمبر 1931، وصلت الدفعة الأولى من الطلاب الصينيين القادمين من مدرسة مينغده في يوننان إلى القاهرة. وفي عام 1933، أسست جامعة الأزهر المصرية قسم الطلاب المبعوثين الصينيين وأهدت 400 نسخة من الكتب القيمة لمدرسة تشنغدا، كما أرسلت معلمين من الأزهر إليها، وفي عام 1933 قام الإمام ما سونغ تينغ بزيارة مصر وقابل ملك مصر فؤاد الأول وشيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري وغيرهما من الشخصيات البارزة. في أكتوبر عام 1936. في تلك الفترة، وبعد الغزو الياباني للأراضي الصينية، شكل الدارسون الصينيون في مصر قوة الصين الناعمة الأكثر تأثيرا في المنطقة العربية. في سنة 1938، قام الإصلاحي الصيني المعروف تاو شينغ تشي، بزيارة ست وعشرين دولة في أوروبا وآسيا وأفريقيا، بصفة “مبعوثا دبلوماسيا وطنيا”، للتعريف بحرب مقاومة الصينيين ضد الغزاة اليابانيين وإنقاذ الوطن. عن زيارته إلى مصر، قال السيد تاو في مقال نشرته ((جريدة شينخوا اليومية)) التي كانت تصدر في مدينة تشونغتشينغ: “تحت ظلال الأهرامات المكسوة بالشمس الغاربة على ضفاف النيل، انتشر صوت غناء ((مارش المتطوعين)) المهيب إلى حافة الصحراء.” كان ذلك الصوت هو صوت الطلاب المبعوثين من قومية هوي. سافر الطلاب الصينيون الأزهريون إلى مكة للقيام بحملة إعلامية واسعة النطاق حول مقاومة الصين ضد الغزاة اليابانيين، في موسم الحج. خلال أداء فريضة الحج أتم العلامة الصيني ما جيان كتابة ((رسالة إلى جميع المسلمين في العالم)) باللغة العربية. وفي الثالث عشر من مايو 1938، أذاعها لين تشونغ مينغ في محطة الإذاعة المصرية بالقاهرة، ثم نشرها في الصحف العربية. ظل أبناء الصين الذين درسوا في الأزهر ذخيرة الصين الناعمة للتأثير في المنطقة العربية لاختراق الحصار الذي فرضه الغرب عليها بعد تأسيس الصين الجديدة في سنة 1949. في سنة 1955، عقد مؤتمر باندونغ الذي شاركت فيه الصين واثنتا عشرة دولة عربية وإسلامية. وقد اصطحب الزعيم الصيني الراحل شو أن لاي معه ضمن الوفد الرسمي لبلاده الإمام الكبير دا بو شنغ، نائب رئيس الجمعية الإسلامية الصينية، فضلا عن عدد من المترجمين باللغة العربية.
بعد تأسيس الصين الجديدة، كانت الصين تحاول الخروج من العزلة التي فرضها عليها الغرب، ومواجهة حملات التشويه ضدها من جانب الدول الغربية، مستخدمة في ذلك السبل الدبلوماسية فدعمت حركات التحرر الوطني في دول العالم المختلفة، ونوعت أدوات قوتها الناعمة، ولكن أبواب الغرب ظلت موصدة أمام جمهورية الصين الشعبية. في تلك الفترة كانت المنطقة العربية والدول الأفريقية والآسيوية هي الفضاء اللين لتحرك القوى الناعمة الصينية، فشرعت بكين في دعم تعليم اللغة الصينية في العديد من دول العالم، ومنها الدول العربية. وفي المقابل بدأت الصين في استقبال الدارسين من الدول العربية، والذين صاروا لاحقا من عناصر قوة الصين الناعمة في المنطقة. الأكثر من ذلك، أنه في الستينات بدأ تبادل الطلاب في مرحلة التعليم الأساسي بنظام الأسر المضيفة فجاء إلى مصر دفعة من تلاميذ الصين، صاروا لاحقا من المؤثرين في المجتمعات العربية. كما أرسلت الصين معلمين لتدريس العلوم العلمية مثل الرياضيات في المدارس اليمنية، وزاد عدد الطلاب الصينيين الدارسين في مصر وسوريا ولبنان، كما تضاعفت أعداد الدارسين العرب في الصين. وبدأت الصين في تلك الفترة إرسال البعثات الطبية إلى الدول العربية، وكانت الجزائر أول دولة عربية وأفريقية استقبلت بعثة طبية صينية إلى الخارج. وشهدت تلك الفترة إطلاق العديد من المنصات الإعلامية الصينية باللغة العربية، فضلا عن ترجمة كتب صينية إلى اللغة العربية.
بحلول عقد التسعينات من القرن العشرين، بدأت القوة الناعمة الصينية تعرف طريقها مجددا إلى الغرب، من خلال المنتجات الصينية ذات الطابع الثقافي. صارت أشجار عيد الميلاد والهدايا ولعب الأطفال قوة صينية ناعمة. وبدأ بزوغ السينما الصينية ونجوم الفن الصينيين على المسرح العالمي، من خلال أفلام حصلت على جوائز في مهرجانات عالمية. عرف العالم، وخاصة في الغرب مخرجين مثل شيه فيْ وتشانغ يي مو وتشن كاي قه وآنغ لي، وممثلات مثل قونغ لي وتشانغ تسي يي وليو يي فيْ. وبدأ بزوغ الصين في عالم الرياضة وصارت الفرق الصينية في ألعاب مثل تنس الطاولة والجمباز والكرة الطائرة وكرة الريشة والغطس، إلخ، تجذب الجمهور خارج الصين، وعرف الناس أسماء أبهرتهم مثل ما لونغ ودنغ يا بينغ، وفو مينغ شيا ومو هوي لان. في بداية الألفية الجديدة كان الصيني ياو مينغ لاعب فريق هيوستن روكتس حاضرا في وسائل إعلام الدولة التي يعشق أهلها كرة السلة، الولايات المتحدة الأمريكية. جابت الفرق الفنية الصينية دول العالم وعرف العالم الآلات الموسيقية الصينية التقليدية. كان هذا المد الصيني الناعم أقوى من الحواجز السياسية في بعض المجتمعات. ومع تحسن الأوضاع الاقتصادية في الصين، صار عدد متزايد من الصينيين يسافر إلى الخارج، للدراسة ولأغراض أخرى، وظهر في العديد من الدول الغربية ما يسمى بـ”تشينا تاون”، وهي المناطق التي تكاد تكون صورة مصغرة للمجتمع الصيني. لم تكن المنطقة العربية خارج هذا السياق، جاء مدربو الجمباز والووشو إلى المغرب ومصر وتونس والعراق، ومعهم مترجمون صينيون من الذين درسوا العربية في بلاد العرب، وصارت المنتجات الصينية من سلع الاستخدام اليومي موجودة في كل بيت عربي تقريبا. ومع تزايد أعداد الصينيين بالخارج ظهرت المطاعم والأسواق الصينية في المدن العربية. صار سوق التنين في دبي أكثر من مجرد ساحة للتسوق، وإنما معرض ثقافي. الشركات الصينية التي تنفذ مشروعات في الدول العربية وتستعين بمترجمين صينيين للعربية، انضمت إلى أدوات القوة الناعمة الصينية.
في تلك الفترة، كانت القوى الناعمة الصينية تتدفق تلقائيا ومن دون عوائق كبيرة، في وقت اتسم بما يمكن وصفه بأنه بهدنة الوقت المستقطع في صراع الغرب من الصين. كان الغرب متقبلا لفكرة صعود الصين الاقتصادي وانفتاحها باعتبار أن ذلك يمهد الطريق لانخراطها في ما يسمى بالقيم الغربية مع أجيال جديدة من الصينيين تلقت تعليمها في الغرب وسافرت إلى خارج الصين. تزايد قبول الصين غربيا وتدفق إليها الزوار والمستثمرون والباحثون ونشطت القوى الناعمة الصينية في الدول الغربية. غير أن رياح الصين في السنوات اللاحقة جرت بما لا تشتهي سفن الغرب. الصين التي ركزت في السنوات الثلاثين الأولى للإصلاح والانفتاح على بناء قوتها الاقتصادية صارت تتجه حثيثا إلى تنظيم وتخطيط قواها الناعمة، والأكثر أنها أضحت تطرح مفاهيم وأنساقا وأنماطا لا تتسق مع ما يسمى بالقيم الغربية. وكان نجاح الصين الاقتصادي مغريا لدول العالم الأخرى للنظر والتأمل في ما تطرحه الصين. كان حرص الصينيين على نعت وصفاتهم في الاقتصاد والتنمية والعلوم والتكنولوجيا بأنها ذات خصائص صينية يفرض تحديا على “القيم الغربية”. الأكثر من ذلك، أن الصينيين زادوا من نقدهم للمفاهيم والنظم الغربية. طرحت الصين مبادرات وأفكار ذات طابع عالمي، الحزام والطريق، التنمية العالمية، الأمن العالمي، النمط الجديد للعلاقات بين القوى الكبرى، التحديث الصيني النمط بل وأنشأت مؤسسات ذات طابع دولي تكاد تكون موازية للمؤسسات التي تأسست وفقا للمفاهيم الغربية- البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية نموذجا. هنا، بدأت دول غربية في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية إعاقة التدفق الطبيعي للقوى الناعمة الصينية، فبدأت فرض قيود على وسائل الإعلام والشركات الصينية داخل أراضيها، وشن حملات لتشويه صورة الصين في العالم، مما كان له تأثير على فاعلية القوى الناعمة الصينية في الغرب. حسب دراسة أجرتها مؤسسة برتلسمان وصندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة الأمريكية (GMFUS)، ونشرتها صحيفة هوانتشيو ((غلوبال تايمز)) الصينية، فإن الغربيين لديهم بشكل عام مشاعر سلبية بشأن تأثير الصين في الشؤون العالمية، فنسبة الأمريكيين الذين يعتبرون الصين شريكا 15% والبريطانيين 20%. وحسب كينغسلي إيدني أستاذ العلوم السياسية في جامعة ليدز البريطانية، فإن الاستطلاعات الأخيرة تظهر أن المواقف العامة تجاه الصين سلبية للغاية فى جميع أنحاء العالم الغربى، كما جاء في مقالته المنشورة في الخامس عشر من ديسمبر 2022.
في المنطقة العربية، استمر التدفق الطبيعي للقوى الناعمة الصينية، مع دخول المزيد من المنتجات ذات العلامات التجارية الصينية وتضاعف أعداد دارسي اللغة الصينية وانتشار المراكز الثقافية الصينية في الدول العربية. في نهاية عام 2020، بلغ عدد معاهد وفصول كونفوشيوس سبعة عشر في اثنتي عشرة دولة عربية، وصارت اللغة الصينية تدرس في العديد من الجامعات العربية، بل إن مصر والسعودية والإمارات أدرجت اللغة الصينية ضمن مناهج التعليم قبل الجامعي فيها. في عام 2018، بلغ عدد الطلاب العرب في الصين حوالي 22 ألفا. واصلت وسائل الإعلام الصينية التقليدية والجديدة دورها كقوة ناعمة للصين في المنطقة العربية، فضلا عن الأعمال الأدبية والدرامية. زاد عدد الكتب الصينية المترجمة إلى العربية، في مجالات مختلفة. يقول جوزيف براودي، المتخصص في المجتمعات العربية، إن وسائل الإعلام الصينية حققت نجاحا غير مسبوق في التواصل مع الشرق الأوسط، مستشهدا بنجاح تقديم مسلسل درامي كوميدي صيني مدبلج باللغة العربية على القناة الثانية بالتلفزيون الرسمي لمصر.
لا تزال المنطقة العربية فضاء رحبا للقوة الناعمة الصينية، ولكن استمرار ذلك يحتاج إلى جهود مضنية وأدوات جديدة مبتكرة.
مقال نشره موقع الصّين اليوم، تُعيد نشره صباح الخير-البناء
حسين اسماعيل