ليست الغارات الإسرائيلية على قرى الجنوب هذا الأسبوع حدثًا استثنائيًا، بل حلقة جديدة في سلسلةٍ طويلة من العدوان المتواصل منذ أكثر من عام، في خرقٍ يوميٍّ لاتفاق وقف إطلاق النار الذي صار مجرّد حبرٍ على ورق. لكن ما تكشفه الأيام الأخيرة يتجاوز البعد العسكري إلى مشهدٍ أوسع: مشروع استنزاف منظم يستهدف تفكيك معادلة الردع وتفريغ لبنان من عناصر قوّته النفسية والسيادية، في ظلّ سلطةٍ رسميةٍ تُحسن الصمت حين يُقصف الوطن، وتتحرّك فقط حين يُذكَر سلاح المقاومة.
العدوان المستمر: نار لا تنطفئ
من جرود شمسطار والنبي شيت إلى عربصاليم وتول وخلة العين وحاروف، تتنقّل طائرات العدو ومسيراته بين القرى والوديان اللبنانية، ناشرة الموت والرعب، ومستبيحة الأجواء كما لو أنّها سماء بلا سيادة.
النتيجة: شهداء مدنيون، منازل مدمّرة، قرى مهددة بالنزوح، وسلطة غائبة لا تملك سوى بيانات خجولة ومواقف لفظية.
والأخطر أن العدوان تجاوز الجوّ إلى الأرض: فجرًا، توغلت قوة إسرائيلية إلى داخل بلدة بليدا واغتالت موظف البلدية إبراهيم سلامة بدمٍ بارد. جريمة موثقة بالصوت والصورة، لكنها واجهت — كالعادة — صمتًا رسميًا لا يليق إلا بأنظمة فاقدة للإرادة الوطنية.
الخرق كأداة استراتيجية: إعادة رسم ميزان القوى
ما يجري ليس ردّ فعل ظرفيًّا، بل استراتيجية إسرائيلية مركّبة. فالعدو يدرك أن الحرب المباشرة مع لبنان مكلفة، لكنه يعتمد نهج «الاستنزاف التدريجي» لإضعاف الجبهة الداخلية وتحويل المقاومة من حالة شعبية راسخة إلى ملف سياسي خلافي يمكن نزع شرعيته تدريجيًا.
كل غارة على بيت، وكل تحليق لمسيرة فوق قرية، هو رسالة نفسية: «أنتم مكشوفون، لا حماية لكم، والمقاومة لا تردّ».
لكن خلف هذا الضجيج، يدور صراع أعمق على مفهوم السيادة ذاته: هل تبقى الكرامة الوطنية مرتبطة بقدرة اللبناني على الدفاع عن أرضه، أم تُختزل في بيانات الأمم المتحدة ومقررات السفراء؟
الصمت الرسمي وتواطؤ النخب
في المقابل، تبدو الحكومة اللبنانية وكأنها تدير ظهرها لجبهتها الجنوبية. فبدل أن تُفعّل أدواتها الدبلوماسية أو تدعو مجلس الأمن لمحاسبة العدو، تنشغل بلجانٍ وبيانات عن «ضبط السلاح غير الشرعي».
كأنّ المشكلة ليست فيمن يعتدي على الوطن، بل في من يحميه.
وهذا الانحراف في البوصلة لا يُفهم إلا ضمن سياقٍ أوسع من تفكيك الوعي الوطني، حيث يجري العمل على تحويل المقاومة إلى عبءٍ بدلاً من كونها ركيزة الكرامة الوطنية، عبر إعلامٍ ممول ونخبٍ مأجورة تروّج لثقافة الخضوع باعتبارها «واقعية سياسية».
التطبيع كغطاء إقليمي للعدوان
وفيما ينزف الجنوب، تنكشف ملامح تحالفٍ إقليمي جديد عنوانه المعلن «الاستقرار»، وجوهره التحالف مع العدو.
فالتقارير العبرية نفسها تؤكد استمرار الاتصالات بين السعودية وتل أبيب رغم الحرب على غزة، ووجود تنسيقٍ ميداني وأمني في ملفات الطاقة والسيبرانية.
أما الإمارات، فقد تحولت إلى ذراعٍ لوجستية لإسرائيل في الإقليم، تموّل مشاريعها وتغطي وجودها تحت لافتة «المساعدات الإنسانية».
بهذا المعنى، لم يعد العدوان على لبنان فعلاً إسرائيليًا صرفًا، بل مشروعًا أميركيًّا–صهيونيًّا–عربيًّا مشتركًا لإعادة هندسة المنطقة وفق معادلة «أمن إسرائيل مقابل خنوع العرب».
أسرى لبنان في سجون الاحتلال: الجرح المنسي
في الوقت نفسه، يقبع عشرات اللبنانيين في سجون الاحتلال منذ سنوات، من البقاع إلى الجنوب، بينهم هادي وعلي عساف، عبد الله خضر، حسين الشريف، يوسف عبدالله، بلال غيث، علي دار شيني وغيرهم.
ملفّهم غائب عن الخطاب الرسمي، وكأن أسر اللبناني في معتقلٍ إسرائيلي لم يعد قضية وطنية.
لكن وجودهم هناك يذكّر بأن العدوان ليس فقط على الأرض، بل على الكرامة الإنسانية نفسها.
معركة الوعي قبل السلاح
إن أخطر ما يواجه لبنان اليوم ليس القصف وحده، بل محاولة قتل الإرادة الوطنية وتحويل المقاومة من فعل وجودي إلى تهمة سياسية.
فحين تصبح الكرامة «تهديدًا»، والمقاومة «مغامرة»، يكون الوطن قد دخل مرحلة الانهيار المعنوي.
ولذلك، فإن مواجهة العدوان تبدأ من الوعي: وعي بأنّ إسرائيل لا تستهدف الجنوب فقط، بل تستهدف الذاكرة التي تحفظ معنى الجنوب، وتخشى أن يبقى في هذه الأرض من يقول «لا» في وجه الهيمنة.
خاتمة: ما بين الكرامة والفراغ
العدو يراهن على الزمن، وعلى ضعف الدولة، وعلى تواطؤ بعض الداخل، ليحوّل لبنان إلى كيان منزوع السلاح والإرادة.
لكن التجربة التاريخية تؤكد أن الجنوب لم يُكسر يومًا، لا بالاجتياح ولا بالحصار ولا بالتجويع.
من دماء الشهداء في عربصاليم وتول وبليدا، إلى الأسرى في زنازين الرملة والنقب، يولد الدرس ذاته:
أن الوطن لا يُحمى بالبيانات، بل بالإرادة.
وأن المقاومة ليست خيارًا عسكريًا، بل هوية وطنية، ومن يتخلّى عنها، يتخلّى عن نفسه.

