لم تعد غزة مجرد جغرافيا محاصَرة على شاطئ المتوسط، بل باتت منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 مركز اختبار للإنسانية ولحقيقة النظام العالمي بأسره. الحرب المستمرة هناك ليست مواجهة عسكرية فقط، بل انعكاس مباشر لمعركة كبرى بين مشروع إمبريالي ـ صهيوني يسعى إلى فرض هيمنته المطلقة، وبين شعوب ترفض الاستسلام وتسعى للحرية والكرامة والسيادة.
غزة كمرآة للهيمنة
ما تكشفه غزة اليوم هو عُري المنظومة الدولية التي لطالما رفعت شعارات «حقوق الإنسان» و«الديمقراطية». فمن واشنطن إلى العواصم الأوروبية، يقف الغرب مجتمعًا خلف آلة الإبادة الإسرائيلية، سياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا. هنا تتضح الحقيقة: الإمبريالية والصهيونية وجهان لعملة واحدة، مشروع يقوم على الاستئصال والسيطرة ونهب الموارد، ولو على حساب ملايين الأبرياء.
لكن غزة أظهرت أيضًا شيئًا آخر: قدرة المقاومة، رغم الحصار والإمكانيات المتواضعة، على كسر أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر». لقد انهارت هيبة الردع الصهيوني، وارتبك حلفاؤه أمام مشهد صمود شعبٍ لا يملك سوى إرادته وإيمانه.
الارتباط بالمشرق كله
المعركة في فلسطين لا تنفصل عن باقي قضايا الأمة السورية الطبيعية، أي المشرق الممتد من العراق إلى لبنان مرورًا بسورية والأردن. فالوجود الأميركي في شرق الفرات، تحت ذريعة «مكافحة الإرهاب»، ليس سوى استمرار لنهج الهيمنة نفسه: نهب النفط والقمح، ومنع أي تكامل اقتصادي مشرقي. كذلك تأتي مشاريع الممرات الاقتصادية الجديدة لتعيد رسم خرائط النفوذ: «الممر الهندي ـ الخليجي ـ الأوروبي» مقابل «الممر الصيني ـ الإيراني ـ العراقي ـ السوري».
هنا يصبح واضحًا أن فلسطين ليست قضية منفصلة، بل هي قلب المعركة. فمن يريد سيادة في بغداد أو دمشق أو بيروت لا يمكنه أن يغضّ النظر عما يحدث في غزة. والاستسلام أمام التطبيع الاقتصادي والسياسي مع «إسرائيل» ليس سوى قبول بعودة الاستعمار بثوب جديد.
سلاح الشباب: الوعي والإرادة
التحدي الأكبر اليوم ليس فقط في مواجهة الطائرات والصواريخ، بل في مواجهة حروب الجيل الخامس: الإعلام الموجَّه، العقوبات الاقتصادية، تفكيك المجتمع، وزرع اليأس في قلوب الشباب. هذا السلاح الناعم أخطر من المدافع، لأنه يستهدف وعي الأجيال وصورتهم عن أنفسهم.
من هنا، يصبح استنهاض الشباب السوري ـ المشرقي واجبًا وجوديًا. فجيل اليوم هو الذي يملك أدوات جديدة لمواجهة الهيمنة: الإعلام الرقمي، الثقافة المقاومة، المبادرات الاجتماعية، والقدرة على خلق خطاب يتجاوز الطائفية والحدود المصطنعة. المطلوب هو أن يرى الشباب أنفسهم ورثة لتاريخ طويل من النهضة: من مقاومة الاحتلال العثماني والفرنسي، إلى تجارب التحرر العربي في القرن العشرين، وصولًا إلى المقاومة الحديثة في جنوب لبنان وغزة.
نحو خطاب نهضوي مشرقي
ما نحتاجه اليوم ليس مجرد متابعة أخبار أو شعارات موسمية، بل بناء خطاب نهضوي متماسك يقوم على:
1 ـ ربط الداخل بالخارج: لا مقاومة بلا إصلاح داخلي، ولا إصلاح بلا مقاومة الخارج.
2 ـ مواجهة التطبيع: عبر كشف كونه امتدادًا للاستعمار الاقتصادي والثقافي.
3 ـ إحياء الهوية المشرقية الجامعة: التي تتجاوز الطوائف والكيانات المصطنعة، وتعيد الاعتبار لفكرة «الأمة السورية الطبيعية».
4 ـ إبراز نماذج المقاومة الناجحة: لتكون مصدر إلهام وثقة للجيل الجديد.
الخاتمة: من غزة إلى دمشق وبغداد وبيروت
اللحظة الراهنة ليست مجرد مأساة، بل هي فرصة تاريخية لإعادة التموضع. فكما شكّل صمود بيروت عام 1982 منعطفًا، وكما غيّر انتصار تموز 2006 معادلات المنطقة، فإن ملحمة غزة اليوم قادرة على فتح أفق جديد.
السؤال المطروح: هل نترك هذه اللحظة تمرّ كحدث عابر، أم نحولها إلى منصة لانبعاث مشروع مشرقي جديد يقوده الشباب؟
الإجابة ليست عند الحكومات ولا عند القوى التقليدية، بل عند الجيل الصاعد الذي يرى في دماء أطفال غزة وفي تضحيات مقاوميها مرآة لذاته. هذا الجيل هو المدعو ليقول كلمته: لا للاستبداد في الداخل، لا للهيمنة في الخارج، نعم لنهضة أمة حرة موحَّدة على أرضها الطبيعية.

