هل للحقيقة قيمة مستقلة عن العقل الإنساني، أم أنها لا تتحقّق إلا من خلاله؟
هذا السؤال الجوهري يكشف عن إشكالية فلسفية عميقة تتمحور حول العلاقة بين الحقيقة بوصفها موجوداً موضوعياً، والعقل بوصفه وسيلة الإدراك والمعرفة، فهل الحقيقة موجودة في ذاتها دون حاجة إلى عقل يُدركها؟ أم أن وجودها لا يكتمل إلا حين تُعرَف وتُصبح موضوعاً للوعي الإنساني؟ وهل المعرفة تُضيف إلى الحقيقة شيئاً، أم أنها تكتفي بكشفها دون أن تؤثّر في ماهيتها لإشكالية إذا كانت الحقيقة موجودة خارج العقل، فما قيمتها إذا بقيت مجهولة؟ وهل تُعتبَر «موجودة» بالنسبة للعقل الذي لا يدركها؟.
وإذا كانت لا تتحقّق إلا حين تُدرك، فهل معناها ومكانتها تابعَين للعقل، وليست قائمة في ذاتها بهذا يظهر تساؤل أساسي: هل الحقيقة مستقلّة ومطلقة، أم أنها لا تتحقّق إلا من خلال العقل الإنساني وفعله المعرفي.
أولاً: الحقيقة الموضوعية ـ موجودة في ذاتها، لكنها ناقصة دون إدراكها بالعقل.
تذهب الواقعية الفلسفية إلى القول بأن الحقيقة موجودة في العالم الموضوعي، سواء عرفها الإنسان أم لم يعرفها، فالظواهر الطبيعية مثل الجاذبية، ودوران الأرض، وتكوين العناصر الكيميائية، كانت موجودة قبل ظهور الإنسان، ولم يكن إدراكها شرطاً لوجودها، فالعقل لا يخلق الحقيقة، بل يكتشفها فقط.
ومع ذلك، فإن هذه الحقيقة تظلّ، من منظور الانسان، غائبة وغير فعالة ما لم تدخل في حيّز المعرفة، بمعنى آخر، الحقيقة لا تحتاج إلى العقل كي توجد، لكنها تحتاج إليه كي تُدرَك وتصبح جزءاً من الوعي الإنساني.
ثانياً: دور المعرفة في منح الحقيقة قيمتها الإنسانية.
وجود الحقيقة دون وعيٍ بها، يُشبه النور دون عين تُبصر، أو كتاب دون قارئ، فالمعرفة هي التي تمنح الحقيقة معناها من حيث علاقتها بالانسان، دون أن تضيف إليها أو تنقص منها شيئاً من حيث كيانها، بمعنى دقيق، لا تُنتج المعرفة الحقيقة، ولا تصنعها، بل تُفعّل حضورها في حياة الإنسان، فالحقيقة، بحدّ ذاتها، لا قيمة لها ما لم تُدرَك، والمعرفة لا تُغيّر الحقيقة، لكنها تُحوّلها من كونها غائبة أو مجهولة إلى حقيقة فعالة ومؤثّرة في الحياة الإنسانية.
ثالثاً: الحقيقة التركيبية ـ العقل لا يكتفي بالاكتشاف، بل يبدعاً ليست كل الحقائق مجرد معطيات جاهزة في الطبيعة، بل إن بعضها هو نتيجة لفعل تركيبي يقوم به العقل، فيجمع بين عناصر موجودة وينتج منها حقيقة جديدة لم تكن موجودة قبل تدخل الإنسان.
على سبيل المثال: الذرة حقيقة طبيعية موجودة، لكن القنبلة الذرية هي نتاج لتفاعل عقلي ـ تقني ـ معرفي، أعاد صياغة المادة في شكل جديد، بهذا المعنى، لا يقتصر العقل على الاكتشاف، بل يتجاوز ذلك إلى الإبداع، فيُعيد تشكيل الواقع، ويُنتج منه حقائق جديدة، تُعبّر عن وعي الإنسان وسعيه لتجاوز ما هو موجود نحو ما هو وجود جديد في خدمة الانسان.
رابعاً: تصنيف الحقيقة
يمكن التمييز بين نوعين أساسيين من الحقيقة:
الحقيقة الموضوعية: موجودة في ذاتها، والعقل يكتشفها كما هي دون أن يُنتجها.
الحقيقة التركيبية: يُنتجها العقل من خلال إعادة تنظيم عناصر واقعية، ليُشكّل منها معرفة جديدة وواقعاً جديداً.
وبين هذين النوعين، يمارس العقل البشري وظيفته المعرفية: فيكشف، ويعيد ترتيب وتركيب، ويُعيد بناء ما هو موجود، وفق حاجاته، وغاياته الأخلاقية والوجودية.
ليست الحقيقة وَهْماً ولا خيالاً، وليست فقط معطًى طبيعياً جاهزاً، بل هي حصيلة تفاعلٍ بين ما هو موجود في ذاته، وما يُدركه الإنسان ويفعّله معرفياً وثقافياً وأخلاقياً.
يظهر دور الإنسان هنا، لا كمُتلقٍ سلبي للحقيقة، بل كفاعلٍ فيها: يكشفها حين تكون موضوعية، ويصوغها حين تكون تركيبية.
فالحقيقة ليست مجرد غاية معرفية، بل هي مسؤولية وجودية، تكشف عن إمكانات الإنسان في تحويل المعرفة إلى وسيلة لتجويد الحياة، وفي استخدام العقل لا لتدمير الوجود، بل لحمايته وصيانة كرامة الإنسان فيه.

