إن حجم الدمار وعدد الضحايا والجرحى والمشردين الذين خلّفهم الزلزال الضخم في الشمال السوري التاريخي، سواء في مناطق سيطرة الدولة السورية، أو المناطق الواقعة ضمن حدود تركيا، أو مناطق سيطرة المسلّحين في إدلب وريف حلب، قد أربك دول الغرب والمنظمات الدولية في كيفية التعامل معه، وفي قدرتهم على فصل الشأن الإنساني الإغاثي عن التوظيف السياسي.
وحجم الدمار قد خلخل قواعد التعامل التي كانت سائدة، والتي كانت تقوم على مقاطعة وحصار الدولة السورية، الا بالحد الأدنى من نشاط المنظمات الدولية، وعلى إيصال المساعدات الى مناطق المسلحين من خلال المعابر التركية، وترك إدارة توزيع المساعدات والدعم على المنظمات الدولية وغير الحكومية، وقوى الأمر الواقع على الأرض.
في الأيام الأولى التي تلت الزلزال، بدأت الدول الغربية والمنظمات الدولية بحشد المساعدات لتركيا، مع ذكر خجول للدولة السورية. وقد تجلى ذلك من خلال الجسور الجوية التي ركزت على تركيا بشكل أساسي. بعد تكشف حجم الكارثة في الداخل السوري، سارعت بعض الدول العربية، مشكورة، وخارج عن التوجيهات الأميركية الصّارمة، الى توجيه بعض المساعدات الى سورية، والى فتح قنوات الاتّصال مع الحكومة في دمشق.
وقد تحججت الولايات المتحدة في البداية، والدول والمنظمات التي تدور في فلكها، تارة بقانون قيصر والحصار، وتارة بأن النظام يسيطر على المساعدات ولا يسمح بتمريرها الى مناطق سيطرة المسلّحين، وتارة بأن النظام فاسد وغير شفاف، الخ.
في المقابل، استنفرت الدولة السورية كل إمكانياتها، وما توفر لها من دعم شعبي محلي وعربي ودولي، ومساعدات من بعض الدول الصديقة، وتعاملت مع الكارثة الإنسانية بشكل منظم الى حدّ ما، بما في ذلك قرار فتح المعابر الى مناطق سيطرة المسلحين، وإرسال المساعدات الى هناك بما توفر.
ومع انتشار التغطية الإعلامية لما يحصل في سورية، بدأت الجاليات العربية وبعض القوى والأحزاب في الغرب، بالضغط على حكوماتها وانتقادها وانتقاد المنظمات الدولية على انحيازها الفاضح ولا انسانيتها في التعامل مع هذه الكارثة الإنسانية، حيث سقطت كل شعاراتها أمام الممارسة الكيدية المسيّسة، مما اضطر الولايات المتحدة الى اصدار توضيح في البداية أن قانون قيصر لا يشمل المساعدات الإنسانية، وبعد ذلك اضطرت وزارة الخزانة على اصدار الترخيص 32، الذي هو عملياً تجميد لقانون قيصر لمدة ستة أشهر، خاصة بعدما اكتشفت أن مناطق الشمال السوري الخاضعة لسيطرة المسلحين والاحتلال التركي، لا أحد يهتم بها، وأن الاتراك مشغولين بالمقاطعات التركية العشرة التي تأثرت مباشرة بالزلزال، وهي لا تقوم بتمرير المساعدات بحجة أن المعابر الى سورية تضررت من جراء الزلزال.
وقامت بعض الدول العربية، التي كانت بدأت الانفتاح على سورية قبل أن يفرمل هذا الانفتاح تهديد أميركي صارم، بحملة في الاقنية الدبلوماسية، في مواجهة الانحياز الغربي والأممي، مجادلة أن الحكومة السورية برغم كل ما عليها من انتقادات، تبقى طرفا أكثر تنظيماً وموثوقية ويمكن التعامل والتنسيق معه، من كل التشكيلات المسلحة أو الحكومات الشكلية المعارضة التي أثبتت الأحداث غيابها وعقمها وعدم فعاليتها.
والجدير بالذكر، ان عدد ضحايا وجرحى ومشردي الزلزال، على ضخامته، لا تتعدى 10% من الدمار والضحايا والجرحى والمشردين الذين أنتجتهم الحرب السورية، التي مولتها الدول الغربية وبعض الدول العربية بعشرات مليارات الدولارات، واستقدمت عشرات آلاف المسلحين لها من كل اصقاع الأرض، وزودتهم بالأسلحة الفتاكة وأقامت الجسور الجوية والبرية وابتكرت أدوات تمويلية متنوعة، بهدف إسقاط النظام وتدمير الدولة. وبالتالي فإن عمليات إعادة إعمار ما دمره الزلزال هي جزء بسيط مما هو مطلوب لإعادة إعمار ما دمرته الحرب السورية لعقد كامل من الزمن، بدعم من أكثر من 86 دولة سمت نفسها بأصدقاء الشعب السوري. فأين هؤلاء الأصدقاء اليوم؟ وماذا كان رد فعلهم على الكارثة الحاصلة، التي كان الشعب السوري في المناطق الثلاثة، هو من أهم ضحاياها. فأعداد النازحين السوريين الذين قضوا في الزلزال في المناطق الواقعة ضمن الحدود التركية كبير جداً. وجهود الإنقاذ في مناطق سيطرة المسلحين كانت بدائية وتركت على بعض القوى المسلحة المحلية، دون أية مساعدات تذكر. ومناطق سيطرة الدولة شهدت جهوداً محلية ومساعدات عربية محدودة نسبياً، وشبه غياب للمنظمات الدولية، المتواجدة في دمشق منذ بداية الأزمة، لكن دورها كان في معظم الأحيان تجسّسياً أكثر منه إغاثياً.
هذا الواقع، أعاد تذكير العالم بحرب التجويع التي تخوضها أميركا وحلفاؤها ضد الشعب السوري والحكومة السورية، بعد فشل حرب التطويع والتركيع العسكري.
وما أثبتته الأيام القليلة التي تلت الزلزال، أن لا مناص من التعامل مع الدولة السورية برغم كل المآسي. وهذا بدأ مع عدد من الدول العربية، والخليجية منها، وبعدها الدول الغربية، وصولاً الى قرار اميركا بتجميد قانون قيصر لمئة وثمانين يوماً. ومع ذلك نسمع من وقت لآخر اصواتا في بعض الاعلام الغربي، ممن استثمروا في دعم الحرب السورية ولم يحصدوا الا الخيبة، برغم نجاحهم في تدمير البلد، يصرخون الآن للحكومات الغربية، “لا تعوموا الأسد وتغفروا له”!
وكان إداء الحكومة السورية، سواء من خلال الترحيب بالدعم العربي (ومنه اللبناني بعد تردد)، أو من خلال طلب الدعم من الاتحاد الأوروبي، مما خلق بلبلة وإحراجاً ونقاشات حادة في بروكسل والعواصم الأوروبية، أو من خلال قرار فتح المعابر مع مناطق سيطرة المسلحين، وفتح المطارات والمعابر لدخول المساعدات، وتخفيف الإجراءات على طواقم الإغاثة وايصال المساعدات القادمة مباشرة الى المناطق المتضررة، حتى نزول المسؤولين السوريين الى ارض الكارثة، بما فيهم الرئيس السوري، كل ذلك، كان له الوقع الجيد في الأوساط العربية والغربية، وهو ما سيؤدي مع الوقت، الى عودة التعامل التدريجي مع الحكومة السورية، التي لا بديل لها حالياً إلا الفوضى والعبثية.
وبرغم الاشتباكات الدائرة في أوكرانيا والصراع الغربي – الشرقي عالي الوتيرة، والتوترات الأميركية – الصينية والاميركية – الايرانية، بدأت نقاشات دبلوماسية جدية، بضرورة تسريع إيجاد حلول للأزمة السورية، تؤدي الى الخروج من عنق الزجاجة، والتوصل الى حد أدنى من التفاهمات والتنازلات من كل الأطراف، لإيجاد مخارج تدريجية تؤدي مع الوقت الى تغيير الأسلوب والمقاربة التي تتعامل معها الأمم المتحدة والغرب مع الأزمة السورية. وقد كانت المرونة والبراغماتية والثبات، التي تعاطت بها الدولة السورية، مؤشراً مشجعاً لإمكانية اعتماد مرونة مماثلة لإيجاد حل سياسي يحفظ ماء الوجه لبعض الدول العربية والغربية.
ويمكن القول أن من نتائج الزلزال، هو انتهاء فترة السماح التي كان العالم يعطيها لسياسة الحصار والتجويع الأميركية، وكان يغض النظر خلالها عن الآثار الاقتصادية المدمرة على الشعب السوري. فالحكومة السورية لم تسقطها حرب التجويع برغم المآسي الاقتصادية، وبرغم الفساد والضعف الداخليين، كما لم تسقطها سابقاً حروب الترويع والتركيع العسكرية التي تحولّت الى تشجيع الإرهاب والأصولية والتخلّف، باعتراف الغرب نفسه.
أمام هذا المشهد، أصبح لزاماً تأمين طرق الوصول الى سورية، سياسياً واقتصاديا ولوجستياً، في المرحلة المقبلة. وأصبح للدول المجاورة، وخاصة لبنان، الذي يعتبر الرئة الأساسية لسورية، دور محوري في المساهمة في صياغة المرحلة القادمة. وبالتالي، صار لزاماً الاتيان برئيس يستطيع، من ضمن أولوياته، لعب دور الوصل بين الدول العربية والغرب من جهة، وبين سورية وحلفائها من جهة أخرى، إضافة طبعاً الى المهمات الداخلية الملحّة، بما في ذلك معالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان، والتي كانت هي أيضاً من نتائج حرب الحصار والتجويع التي خاضتها أميركا ضد سورية، والتي أنهى الزلزال عملياً، فترة السماح المعطاة لها. إضافة أيضاً الى الإصلاحات المطلوبة، ومعالجة موضوع النازحين السوريين، الذي بات يشكل أزمة وجودية للكيان اللبناني وتوازناته.
ولما كان معظم الفريق المتحالف مع الغرب في لبنان، يراهن دائماً على السرديات الغربية بأن النظام في الشام ساقط حكماً، وأن الحكم في لبنان سيكون غربياً، وأن حزب الله سيستسلم ويسلم سلاحه، ويأتي رئيس وحكم “سيادي” في لبنان، أي معادي لسورية وحزب الله وموالي للغرب، بحجة الحياد وعدم دخول المحاور (الا المحور الغربي الذي هم منخرطون به)، فإن كل هذه السردية أطاح بها الزلزال، وصارت مجموعة من الأوهام والذكريات لتجييش بعض الطروحات المحلية والاستمناء السياسي لبعض القيادات الشعبوية.
الرئيس السيادي الحقيقي اليوم، في لبنان، والحكم الجديد المطلوب، هو من يستطيع إعادة لبنان الى لعب دور مبادر شجاع، في إعادة ترتيب المنطقة، والمساهمة في الحلول الإقليمية، لا إبقاء لبنان ساحة لتصفية الحسابات الخارجية وتبادل الرسائل، وسط العجز والانهيار والعبثية والشعبويات السياسية المحلية الضيقة.
لذلك، صار الغرب والعرب، خاصة الدول الأساسية في الخليج، أقرب الى القناعة أن الرئيس الذي يستطيع أن يلعب هذا الدور، هو غير ما تحلم به بعض الأطراف المارونية التي في العمق لا تريد إلا مصالحها الضيّقة، ولو على حساب تعطيل البلد وتفتيته، في وقت لا رؤية استراتيجية لها في كيفية التعامل مع الإشكاليات الكبرى الداخلية والإقليمية التي يتأثر بها الوضع في لبنان.
وأمام هذا الواقع، لا يعود مهماً شكليات الأكثريات والأقليات وما يحكى عن الميثاقية، خاصة في ظل عدم التوافق المسيحي والماروني خصوصاً على مرشح أو مشروع موحد.
بناء عليه، صار لزاماً على القوى السياسية اللبنانية، والمجلس النيابي، القيام بواجبه والدعوة الى جلسات مفتوحة متتالية لانتخاب رئيس يستطيع التأسيس لدور جديد للبنان، والمضي في وضع رؤية متكاملة لحل الإشكاليات الكبرى، الداخلية والإقليمية، بموافقة عربية ودولية، وانخراط تدريجي في إعادة صياغة الحلول لإخراج المنطقة من أزماتها المتفاقمة.
ميلاد السبعلي