بلادُنا، على مدى مئات السنين، تآكلت شخصيّتُها في خضمّ تنازع الأديان والمذاهب، وتحوَّل الاعتقاد الديني، الذي يُريح النفس ويُرضي الروح بعد الموت، إلى وبالٍ على الأمّة.
فقد انقلب الصراع الفكري الديني والمذهبي، حول تفسير ظواهر الكون، ومجيء الإنسان ومعاده، وتنظيم حياة المجتمع على قواعد قيمية، إلى صراعٍ دمويّ، لأنّهم حرّفوا مسار الفكر عن مهمّته الأساسية، وهي الارتقاء بالمفاهيم والقيم نحو الأجمل والأرقى.
ذلك أن القائمين على هذه الأديان أدارواً المعركة وفق قواعد سلطوية وسياسية، وانتهجوا منهج التكفير والتخوين والارتداد. فاستمر هذا التصارع الدموي حتى يومنا هذا، ولا تزال الأمة تتقلّب احتراقاً على نار الفتنة والاقتتال والبغضاء.
بلادُنا بحاجةٍ إلى نهضةٍ بلا أساطير، ويحتاج إنسانُها إلى الاتحاد والتفاعل على أسُسٍ علمية.
لا حاجة لنا بمخلّصٍ يأتي من الغيب، ولا بطقوسٍ تُسترضى بها قوى مجهولة،
ولا بوعودٍ مؤجّلة فيما وراء الموت.
نريد أن نجوَّد نحن حياتنا في هذا الوجود.
نحن جزءٌ من البشرية، ومجتمعٌ في بيئة جغرافية، نتوالد وتستمرّ أجيالنا، وميزتنا عن باقي الكائنات غير البشرية هي العقل.
نُخطئ ونتعلّم ونُصلح، ونتوق إلى المعرفة الحقيقية.
الشرّ والتوحّش ليسا كائنين شيطانيّين، بل فعلٌ يصدر عن جهل الإنسان لذاته، وعن عقلٍ إجراميٍّ عميق الأنانية، سواء أكانت فردية أم جماعية.
والخلاص ليس هبوطاً من السماء، بل فعلٌ عقل إنساني وتفاعل إنسانيٌّ واعٍ يسعى إلى بناء مجتمعٍ متماسك عادل.
نرفض أن ينمو عقل الإنسان على شعورٍ بالخطيئة الأصلية.
نرفض أن يُقال له إنه عاجزٌ عن الإصلاح من دون قوّةٍ غيبية.
نرفض أن يُعطَّل عقلُه، وتُحدَّ حريتُه، وتُمسَخ إرادتُه.
العقل ليس خصماً للإيمان الحقيقي، متى كان الإيمانُ ارتقاءً بالإنسان ـ المجتمع،
بل هو الشرعُ الوحيد لفهم الحياة، وتحسينها، والارتقاء بها.
والإصلاح ليس لحظةً خارقةً آتيةً من الغيب، بل صراعٌ وتفاعلٌ عقلي، وسيرورةٌ مستمرة،
يتقدّم فيها الإنسان ـ المجتمع خطوةً خطوة، أو خطوات، بالعلم، وبالوعي الأخلاقي لحقيقة الإنسان، ليصبح متحضّراً.
عقلُنا الراقي لا ينتظر “الخلاص”، بل يصنعه.
لا يُرجّح الأوهام، بل يبحث ويدقّق حتى يصل إلى الحقيقة العلمية الواضحة.
لا نُقدّس المجهول، ولا نخشاه، بل نُطلق عقلنا لمعرفة ماهيّته.
لا نُقصي الأسئلة، ولا نضع أمام عقولنا “تابو”، بل نطرحها بلا خوف، ونغوص فيها حتى تظهر الحقيقة الجليّة.
لا نحتقر ارتجافات النفس، لكننا لا نقبل أن تُجرّدنا من التفكير، أو تُعطّل العقل، أو تجرّنا إلى الأوهام.
ولا ننكر الروح المُبدعة، المنتصرة في المعركة الإنسانية، لكننا نرى أن الروح تنمو بالعلم والمعرفة، وبالصراع الفكري، لا بالخرافة والأسطورة.
هذا الوجود ليس لعنةً على الإنسان، وليس داراً للخطيئة، بل دارٌ للفضيلة والاجتماع الإنساني الراقي.
وهذا الإنسان ـ المجتمع، بقوة عقله، ليس كائناً ضعيفاً، بل كائنٌ قويّ، قادرٌ على النهوض والتقدّم.
وغايته ليست في التسليم الأعمى، ولا في العبودية للغيب، بل في التحرّر، والارتقاء بالحرية، لخلق مجتمعٍ متناغم يسمو بالحياة الإنسانية.
الحقيقة العلمية تقول:
كفى تزييفاً باسم المقدَّس والمجهول وكفى احتكاراً للحق والحقيقة باسم القادم من الغيب وكفى قتلاً باسم الدين.
ولتعد كلّ منظومةٍ إنسانيةٍ تؤمن بالغيب إلى قراءة الوجود بروحٍ علمية تقرأه بواقعية، وبعقلٍ يكون هو شرعها الأعلى لا بروح الامتياز المعرفي الوهمي الجامد الآتي من وراء الوجود.

