زياد الرحباني: معماري الفن والكلمة

لم يكن زياد الرحباني مجرد مبدع عابر، بل كان معمارياً فنياً فريداً من نوعه، بنى صروحاً من الكلمة واللحن والتمثيل، أعادت تشكيل الوعي الجمعي في لبنان وعموم المشرق. لقد أدرك بحدسه الثاقب أن الفن ليس مجرد ترفيه، بل هو أداة أساسية في الصراع السياسي والاجتماعي، ومحرك للتغيير، ومرآة تعكس واقع الأمة بكل تجلياته.

أحدث زياد ثورة حقيقية في المسرح اللبناني؛ فبعد أن كان يراوح في فلك الكوميديا التقليدية أو التراجيديا الكلاسيكية، جاء ليزرع فيه بذور الواقعية الساخرة، التي كانت تتغلغل في عمق القضايا الوطنية والاجتماعية.

تجاوز المسرح عنده فضاء الترفيه، ليتحول إلى محكمة شعبية علنية تُحاكم الواقع بصلابة وتُدين الفساد بعمق.

 لم يكتفِ زياد بتسليط الضوء على المشكلات، بل كان يفككها ويشرحها ويعرضها على المشاهد بطريقة تجعله جزءاً من المحاكمة، لا مجرد متفرج. من خلال شخصياته التي كانت تمثل شرائح المجتمع المختلفة – من المثقف المرتزق إلى العامل المقهور، ومن الثوري الزائف إلى المواطن المسحوق – قدم زياد نقداً بناءً لاذعاً يهدف إلى تعرية الواقع وتشريح أمراضه.

لم يقدم زياد شخصيات سطحية، بل نماذج اجتماعية حية خرجت من رحم الشارع اللبناني المعذب. كان كل منها يمثل شريحة أو طبقة، بآمالها، خيباتها، تناقضاتها، وعجزها. فنرى الأم المكافحة، والأب الذي أنهكته الحياة، والشاب الضائع بين الهجرة والوطن، والفنان الذي يتصارع مع ضميره. هذا التشريح الاجتماعي الدقيق لم يكن بهدف السخرية المجردة، بل كان دعوة إلى التفكير النقدي الجذري في بنية المجتمع، في علاقات السلطة والمال، وفي مدى تآكل القيم الأصيلة تحت وطأة الأزمات والحروب. وجعل من الضحك دواءً مراً، ومن السخرية سلاحاً فكرياً لتنوير العقول.

في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» مثلاً، ليست عائلة «ثروت» مجرد عائلة، بل هي تمثيل حي للطبقة الكادحة المنهكة، التي تكافح لتأمين لقمة العيش في ظل نظام رأسمالي جشع. الأب «زكريا» (بتمثيل زياد نفسه) رمزٌ للإنسان الذي سُحقت كرامته في دوامة الفقر والعوز، يُجبر على التعامل مع العصابات وتأجير زوجته «ريما» لتُغني في ملهى ليلي، ليس من باب الترف، بل للبقاء على قيد الحياة. هذا التصرف، وإن بدا صادماً، هو تجسيد قاسٍ لإستلاب الإنسان في مجتمع تُصبح فيه الكرامة سلعة رخيصة أمام ضغط الحاجة.

تكشف المسرحية بوضوح الصراع القائم، المستتر والظاهر؛ في هذا النظام السياسي الذي يدفعهم إلى هذا الواقع دون ان يُغفل دور السلطة والإعلام في تكريسه ؛ فالمسرحية تصرح بفساد الأجهزة الأمنية والقضائية، المتواطئة مع الفاسدين مقابل المكاسب. الدولة هنا ليست حامية للناس، بل هي أداة قمع تُستخدم للحفاظ على مصالح السلطة المسيطرة. أما الإعلام، فكان زياد سبّاقاً في كشف تهافته وكونه أداة للتضليل. فشخصية «المذيع» التي تُقدم الأخبار ببرود وتُبرر الفساد، أو تُغفل قضايا الناس الحقيقية، هي تجسيد لدور الإعلام في تغييب الوعي الجماهيري وبدلاً من أن يكون منبراً للحق وكاشفاً للحقيقة، يتحول إلى بوق للدعاية ومرآة تُجمّل القبح.

 اعتماد زياد على اللهجة اللبنانية المحكية، بكل عفوية وتعمق، كان إنجازاً ثورياً بحد ذاته، لقد رفع هذه اللهجة من مستوى «لغة الشارع» إلى مستوى «لغة الفن الراقي»، وأثبت قدرتها على حمل أعمق الأفكار وأكثرها تعقيداً

أما أسلوبه في بناء المشاهد المتفككة، التي لا تخضع لخط سير درامي تقليدي، فقد عكس بشكل صادق الفوضى والضياع الذي كانت تعيشه المنطقة. لم يكن هذا تفككاً عشوائياً، بل كان بناءً فنياً مدروساً يعكس حالة «العبثية المنظمة» التي تسود الواقع. أسلوبه هذا ،دعا الأجيال إلى التفكير خارج الصندوق، وإلى رؤية الواقع من زوايا متعددة، وإلى الادراك  أن الحقيقة قد تكون مجزأة لكنها عميقة.

في عالم الموسيقى، كان زياد نغمة فريدة في سيمفونية الحياة المشرقية. مزج بعبقرية نادرة بين أصالة الموسيقى الشرقية العريقة، بكل مقاماتها وألحانها، وبين إيقاعات الجاز العالمي، ليخلق لوناً موسيقياً خاصاً به، صار بصمة خاصة به لا تخطئها أذن. إن المزج بين الشرق والجاز في موسيقى زياد هو عملية هندسية دقيقة وفلسفة متكاملة.

هو يُتقن فن استخدام المقامات العربية ببراعة قل نظيرها. ففي ألحانه، لا تُعد المقامات مجرد سلالم موسيقية، بل هي فضاءات شعورية كاملة، ينقل عبرها حزن «النهوند» إلى تساؤلات «الصبا»، ويمزج حيوية «البياتي» مع دفء «الراست». هذا الإتقان العلمي للمقام لا يسمح فقط بالبناء اللحني، بل يُمكن زياد من التعبير عن الفروق الدقيقة العاطفية والثقافية المتجذرة في وجدان الشعب.

في المقابل، تتجلى روح الجاز في ألحان زياد بوضوح، ولكن ليس كتقليد أعمى، بل استيعاباً خلاقاً. يظهر ذلك في عدة جوانب؛ فبينما تعتمد الموسيقى الشرقية بشكل أساسي على الخط اللحني (Melody) والمقام، يُدخل زياد الهارمونيات الجازية الغنية والمعقدة، مستخدماً الكوردات الممتدة (Extended Chords) والتوافقات غير التقليدية التي تُضفي على العمل عمقاً وثراءً نغمياً سمعيا جديدا وغير مألوف في السياق الشرقي. أما عنصرا الارتجال وشخصية زياد الثائرة، فيظهران بوضوح في أعماله، سواء في عزفه على البيانو أو في المقاطع المنفردة (solos) التي تُقدمها آلات النفخ (الساكسفون، الترومبيت) أو حتى العود. هذا الارتجال ليس عشوائياً، بل هو مبني على فهم عميق للمقام والهارموني، ويسمح للفنان بـ «التعبير الحر»، مُكسراً جمود القوالب الموسيقية التقليدية.

إذاً، يقوم زياد بتوليف (Synthesizing) عناصر تبدو متنافرة. يجمع بين المقام الشرقي، الذي يركز على العلاقات الأفقية بين النغمات، والتوافق الهارموني الجازي، الذي يركز على العلاقات العمودية (الكوردات). هذا التزاوج يُنتج نسيجاً موسيقياً غنياً.

هذا المزج ليس مجرد إبداع فني، بل هو فعل مقاومة ضد الهيمنة الثقافية. ففي زمن كانت فيه الثقافة الغربية تفرض نفسها بقوة، جاء زياد ليُظهر أن الهوية المشرقية لا تعني الانغلاق على الذات أو رفض الآخر، بل تعني القدرة على استيعاب الجديد وتطويعه لخدمة الأصالة وتجديدها. هو قدم نموذجاً لـ «التحرر الثقافي» الذي لا يذوب في الآخر، مُثبتاً قدرة أهل هذه الأرض على الإنتاج الفني الذي يواكب العصر دون التخلي عن جذورهم.

أغاني زياد التي غنتها الجماهير من المحيط إلى الخليج، لم تكن أغاني حب عادية، بل كانت قصائد تتسلل إلى أعماق الروح، تارة تسخر من الواقع المرير، وتارة أخرى تمجد قيم البطولة والوفاء. كانت كلماته، سواء تلك التي كتبها بنفسه أو التي استلهمها من عمالقة الشعر، تحمل في طياتها فلسفة قومية عميقة، تدعو إلى الإعلاء من شأن الفرد في خدمة الجماعة، وإلى التمسك بالهوية الجامعة في وجه التفتت.

ادرك زياد أن الفن هو لغة الشعوب، وأن الموسيقى هي القوة القادرة على توحيد القلوب وتجاوز الحدود المصطنعة فزرع في نفوس الأجيال بذور الوعي، ودفعهم إلى التفكير النقدي، وعدم الركون إلى السائد. كان قدوة للفنان الملتزم بقضايا أمته، الذي لا يبيع فنه في سوق النخاسة السياسية أو التجارية، بل يجعله سلاحاً في يد شعب يناضل من أجل حقه في الحياة والسيادة والكرامة.

إن رحيل زياد الرحباني خسارة كبرى، لكن إرثه الفني والفكري سيبقى خالداً، شاهداً على عظمة إنسان آمن بقوة الكلمة واللحن، وكرس حياته لخدمة قضايا شعبه. فلنجعل من ذكراه حافزاً لنا للمضي قدماً في طريق النهضة والوعي، ولنظل نردد مقولته الخالدة: «كل ما عم بيصير عنا بالبلد، بيخلينا نقول يا رب».