صعبة هي، وربما مستحيلة، مهمة إحصاء منتجات زياد الرحباني المعرفية، وجمعها في فهرست واحد، لأنها جميعها أنتجت، من تحت مستوى الضجيج الإعلامي التسويقي المعهود، ولكنها في موازين الموثوقية الإبداعية تتجاوز في قيمتها ما هو متداول في سوق الفن. فالإنتاج من طبائع زياد الحياتية دون ضجيج أو بهرجة، ولا حتى مكانة مبنية على البهورة والاستعراض، فالرجل الساكن في رأس بيروت/ الحمرا، كان عادياً في أداءه الحياتي، وكأنه جزء من المكان، لا يحتمل التأويل أو التفسير، فهو ببساطة كان موجوداً كغيره من عاديات شارع الحمرا، الشارع الذي بدأ احتضاره هو الآخر، منذ فترة غير وجيزة.
هل يمكن تعداد إنجازاته وتجاربه وأنواعها واختصاصاتها في مقالة صحفية عابرة؟، أم أن الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير، من توثيق، ودراسات أكاديمية أو بحثية، تشهد على تغلغل هذه المنتوجات في وجدان من تناولها ولو على صعيد الصدفة، فليس من أحد في هذا الشرق الحزين لم يداخله شيء من زياد، فقد شارك في كل أنواع المنابر الإبداعية التي طالتها ماكينته الإنتاجية، ومن ينظر إلى خريطة ( خريطة أولية بالطبع) يرى أنه مارس كل الاختصاصات الفنية المعروفة لديه، فمن صناعة الأفلام مع بداياته الأولى إلى المسرح مؤلفاً ومخرجاً وممثلاً وصانعاً للموسيقى، ومن ثم إلى التلحين، والتأليف الموسيقي والتوزيع، ومن ثم إلى الإذاعة والصحافة والسينما، وصناعة الإعلانات التجارية، مخترعاً لكل هذه الاختصاصات رؤية ورؤيا جديدة، استبصر أنها مناسبة للحقيقة، حقيقة الناس والوطن والقضايا.
ربما رأينا (نحن الناس) زياداً كصانع بهجة بسيط وخلاّق، وهو لم يخالف الناس في هذا، فالبهجة مادة أساسية تُصنع منها المجتمعات، وليست مجرد تخييل إبداعي نظري، فالمسافة بين الفكرة وقماشتها الملموسة في الواقع، كانت معدومة في معالجته للمادة الفنية التي بين يديه، فالإنتاج الفني في رؤيته ذو تأثير فيزيائي في الحياة، فالحياة تنوجد من الأفكار وتطبيقاتها، وترتقي برعاية بهجة التغيير، كي تستطيع الاستمرار، لذلك رأيناه يؤنسن كل شيىء، من القضايا السياسية الكبيرة، حتى أصغر علاقة حب عابرة، محاولاً الانتقال بالناس، من مجرد العيش إلى مجرد الحياة، مستغرباً ومستنكراً الفشل الذي أصاب البلاد، في هكذا مسعى، فوقف على مفترق هذه الفاجعة، ساخراً ( وليس مستهزئاً) من كل شيء حتى من نفسه، محتملاً نصيبه من الألم دون أنين أو شكوى، مثابراً على الإنتاج، لدرجة أنه حول حتى مقابلاته الإذاعية والتلفزيونية إلى عمل فني يعاد عرضها على الرغم من تقادمها، كشاهد على مأساة فشل التغيير، على الرغم مما تحمله من طرافة وبهجة، مضيفة مرارة جديدة على مراراته، ومع ذلك لم يقل للناس «أولم أقل لكم!!».
الكثيرون يعتبرون زياد كوميدياناً بارعاً بدلالة إثارة الضحك، ولكن الأغلب لم يسائل نفسه عن التركيب الغريب لهذه الكوميديا الجدية في محتواها، وتدعو إلى التقطيب والتفكير، نضحك جميعاً على صياغاته الكلامية والحوارية، المحمولة على شخصيات مدروسة بالمعنى الاحترافي، وهي في العموم والخصوص أيضاً، شخصيات عادية ولكنها موضوعة تحت الضوء بتفاصيلها العادية، هي نحن في حال اعترفنا بالحقيقة، والحقيقة هي بيت قصيد زياد الرحباني، الذي لم نصدقه ضاحكين من غرابة الحقيقة، لم نتصورها ولا هي مندرجة في مجريات حياتنا اليومية، فأضحكنا رأيه بالمصارف، وضحكنا من تخيله لقصف تركي على سوريا لأنها إستشرافات مبالغ بها، وضحكنا من آلام زكريا (بالنسبة لبكرا شو؟) لإنها حقائق مسكوتٌ عنها، وضحكنا من أغنية (يا زمان الطائفية) وكأنها حدث حصل من زمن بعيد ولن يتكرر، لنكتشف أن زياد لا يمزح ولا يدغدغ، ككوميديان بارع، بل كان بمنتهى الجدية المؤلمة، كان يقول الحقيقة ولا يكذب، ونحن الناس من جمّلها واستهلكها، ومن ثم فاجأتنا هذه الحقيقة، وهي تعيث فساداً بلقمتنا وكرامتنا.
أنموذج «الإنسان المجتمع»، الذي يكثف علاقته بالآخر الاجتماعي، على أنها مصالح، تحكم بقاءنا واستمرارنا، هذا الحيّز غير المدرك في حياتنا، يجعل ويمارس العيش بشكل إفرادي، حيث يؤجل الفرد رؤية هجوم الفناء، بتأمين منفذ فردي للنجاة ثم يعامله كذاكرة تستحق الدبكة واختراع التبولة!، ولكن ماذا عن أبناء المجتمع الآخرون؟، من هؤلاء الذين يعطون للوطن معنى لمجرد وجودهم به ؟.
بقعة حزن وفجيعة حاصرت المبدع بإبداعه، ولم يغادر، رغم كل الحقائق التي رآها ولمسها، ولم يتهاوى بالبحث عن مخرج، يبعده عن هؤلاء الذي اعتبرهم ذاته، وليسوا آخرين، لهم يشهر صورته وأسمه وإنتاجاته، متمايزا بإبداعاته ومساهماته، كي يكون الوطن منه وفيه.

