غريبةٌ هذه الحياة.
وغريبٌ هذا الإنسان في بلادنا الذي يسير في طيّاتها ككائن هشّ، رغم أنه يحيا في القرن الحادي والعشرين، عصر التقدّم العلمي المذهل، والاكتشافات الدقيقة التي غيّرت جوهر النظرة للعالم.
يظنّ الفرد نفسه عاقلاً، مستقلّاً، مفكّراً…
لكنّه، في واقع الحال، كثيراً ما يتحرّك مدفوعاً بالوهم لا بالبصيرة، وبالعادة لا بالتحليل، وبالرغبة لا بالمنهج.
عقل الإنسان الفرد، في جوهره، ليس عقلاً خالصاً كما يتخيّله الفلاسفة،
بل هو كيانٌ معقّد، هشّ، يتأثر بالبيئة المحيطة، سواء كانت محلية أو عالمية،
ويتداخل فيه الخوف بالأمل، والوهم بالحقيقة، والهوى بالمنطق.
نرى العالم أو الباحث أو المتخصص، الذي يرفض الانجرار خلف الإعلام والدعاية في مجال اختصاصه،
يتصرّف بحذر علمي، ويفحص ويدقّق، ويُخضع كل فكرة للبرهان والتجربة…
لكننا نراه في شؤون أخرى من الحياة، ينجرّ كما ينجرّ العوام، وربما أكثر:
يؤمن بفاعلية غيبية لم تثبت عقلًياً ولا تجربة.
يصدّق شفاءً آتياً من المجهول، من نبتة، من طقس، من خرافة.
يُخدع بشعار انتخابي، أو سياسي، أو اقتصادي، أو اجتماعي، فقط لأنه ينسجم مع المزاج العام، دون أن يدقّق أو يفحص أو يطلب دليلاً علميا.
يردّد عناوين براقة لا تستند إلى بحوث علمية رصينة، بل إلى ما يثير الانفعال الشعبي أو يرضي الموروثات، وكأن الحقيقة تُقاس بما يريده الجمهور او الموروث، لا بما هو ثابت علمياً وواقعيا.
لقد أصبح كثير من الأفراد يتثقفون من الدعاية والإعلانات ووسائل الإعلام ومنصّات الاتصال الإلكترونية،
لا من المعرفة التي تولد من رحم البحث العلمي والنقد والتجربة.
وباتوا يختارون معتقداتهم كما يختارون ملابسهم: على مقاس ما هو دارج وسائد، لا على أساس ما هو حقيقي وصحيح.
نحن نحيا، دون مبالغة، في زمن:
زمن الشعار البراق لا البرهان،
زمن النشوة الإعلانية السريعة لا العقل المتفكّر،
زمن الاندفاع خلف الدعاية الأقوى لا خلف العقل الفاحص المدقق.
ولكن الحقيقة لم تمت، بل هي موجودة، فقط ماتت بذوات الافراد
لكنها تراجعت وتهمّشت تحت سطوة الصورة، وسحر العنوان، وجموح الموجة.
وأصبح العقل، حين لا يقاوم التضليل، مستهلكاً لما يُقال، لا باحثاً عمّا يُقال ولماذا يُقال. من أراد العقل، فليَشُك ويفحَص ويُمَحِّص.
ومن أراد العقل، فعليه أن يُدرك أن العقل ليس عقلاً فردياً فقط، بل هو بالحقيقة عقلاً اجتماعياً.
بمعنى: أن المختص، عليه التدقيق فيما يُطرح أمامه ضمن معايير الاختصاص العلمي، فيقبل المقبول علمياً ويرفض ما يخالف المنهج.
لكن كيف يفحص ما هو خارج تخصصه؟
يفحصه عبر الرجوع إلى المختص العلمي الآخر، الخبير في مجاله.
ومن هنا يولد العقل الاجتماعي: عقل جماعي نابع من تكامل وتفاعل خبرات المختصين الخبراء، لا من استبداد الأفراد بجهالاتهم أو أوهامهم.
– ومن أراد المعرفة، فليطلبها من مصدرها: من العقل الاجتماعي الخبير ، لا من صدى الشائع الموهوم.
ومن أراد حرية العقل، فليقف في وجه الشعار الوهمي حين يُقدّم بديلاً عن الفكر المدقّق،
وليواجه «السائد» حين يُستخدم غطاءً للكسل الذهني وهدم قدرة العقل على التفكير.
ومن أراد الحرية حقاً، فليقسها بمقياس حرية الإنسان – المجتمع، لا حرية الفرد المستبد النفعي.
ومن أراد الحقيقة، فليتناولها من العقل الاجتماعي والتي اكدتها الحياة في معركتها العلمية الانسانية نحو الارتقاء، اي من عقل الإنسان – المجتمع، لا من اجتهادات فردية ضيقة ومنعزلة.
فالعقل الاجتماعي هو انتصار للحقائق العلمية في هذا الوجود، وهو أداة معركة الإنسان في كشف حقائق الكون، ودفع الإنسان – المجتمع نحو الارتقاء، والكرامة، والسعادة.
. اين العقل الجماعي في بلادي
بماذا يتلهى
ولما هو غارق في الوهم والضياع
لماذا لم يتعرف على هويته بعد
ولماذا لا يدرك مصالحه
لماذا لا يبتدع الدفاع عن نفسه
ألا يرى هذه المذابح في كل الامة السورية
متى يستفيق من غيبوبته وسكرته الفردية المذهبية والاثنية وباقي الخرافات..