لمدة ربع قرن، قمتُ بتحقيق أرشيف سلطان الأطرش، ونُشِرَ في بيروت[1].
انطلقت الثورة السورية الكبرى في 21 /7 / 1925، لكنها لفتت نظر العالم بعد معركة المزرعة، 2 – 3 آب، فقامت الدنيا ولم تقعد، وبدأ الأوروبيون بإرسال صحافيين من ألمانيا وغيرها، للوقوف على الواقع في جبل العرب، وبدأ الوطنيون بالاهتمام به!
صرّح سلطان الأطرش للصحافيين الألمانيين، فقال:
«إنّ الفرنسيين لا يسعون جدّياً إلى السِلم في مفاوضاتهم… إنهم يريدون إلهاءنا ريثما تصل قواتهم العسكرية الجديدة…
لا نرضى إلا باستقلال سورية ووحدتها الكاملة وإقامة حكم وطني دستوري فيها. ويجب أن تقتصر مهمّة الدولة المنتدبة على تقديم الإرشادات والمساعدات الفنية والإدارية لا غير، وذلك عن طريق المستشارين والخبراء المؤهَّلين، تطبيقاً لما نصّ عليه ميثاق عصبة الأمم في العام 1919 حول موضوع الانتداب».
أدرك سلطان الأطرش أهمية الإعلام في القضية الوطنية السورية، فأرسل، في 15 //10 1925، رسالة باللغتين العربية والإنكليزية إلى محرّر التيمس[2] البريطانية لإطلاع « الرأي العام في أوروبا على الأسباب الحقيقية للثورة السورية الكبرى التي يحاول الفرنسيون إخفاء حقائقها بقصد تضليل الرأي العام الأوروبي…»، تمّ فيها فضح تنكيل الفرنسيين بالأهالي بإلقاء القذائف على النساء حول الآبار لجلب الماء إلى بيوتهنّ، إضافة إلى قتل الأطفال. أما الثوار، فقد احترموا الأنظمة الدولية في معاملة الأسرى وإعادة نساء الضباط الفرنسيين، اللواتي كنّ في السويداء، إلى عائلاتهنّ.
أضاف أرشيف سلطان الأطرش جديداً إلى تاريخ بلاد الشام. من ذلك مثلاً، أنّ الثورة دامت 12 سنة، ففترة المنفى واللجوء كانت غنيّة بالمواقف السياسية التي أطلقها والتي أثّرت في سَير المحادثات والمفاوضات السياسية والدبلوماسية، وصولاً إلى تحرير كامل التراب الوطني بجلاء القوات الفرنسية عن سورية في 17/4/1946؛ وأنوّه بأنّ الكثير من ثوار الثورة السورية الكبرى، شاركوا في ثورة فلسطين ومنهم الشهيد سعيد العاص (1936).
تمّت تسمية سلطان قائداً عاماً للثورة في مؤتمر ريمة الفخور 23 / 8/ 1925 بعد أن فرض نفسه بسحق حملة الجنرال ميشو في معركة المزرعة، وتمّت تولية الدكتور شهبندر إدارة الشؤون السياسية للثورة وتسميته ناطقاً رسمياً لها؛ لكنّ سلطان كان يرسم الخطوط السياسية للثورة، كما كانت لقراراته أهمية بالغة في تحديد وجهتها، إضافة إلى رسم الخطط العسكرية بالتشاور مع القادة الميدانيين في كل منطقة[3].
كانت ثمة علاقة بين الثورة السورية الكبرى وثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في المغرب، فساهمت ثورة الريف المغربي بتخفيف الضغط عن الثورة السورية، الذي ازداد بعد استسلام الخطابي للفرنسيين. وانضمّ معظم المغاربة في الجيش الفرنسي للقتال في صفوف الثورة السورية ضدّ الفرنسيين.
اتبع الثوار تنظيماً ملفتاً، وذلك بسوق ربع عدد رجال القرية، مصطحبين معهم إعاشتهم الكافية لمدة خدمتهم المقرّرة من القيادة العامة. وتنتهي هذه المدة، فيناوب الربع الثاني من رجال القرية، ويعود إليها رجال الربع الأول؛ وهكذا، يجري التبادل في المواقع بين الثوار، ويقوم مَنْ بقي في القرية بالأعمال الزراعية عن الجميع[4].
في المنفى، كان سلطان يدعو لتوحيد الكلمة وإذابة الشخصيات والأحزاب في سبيل المصلحة العامة «لإنجاح القضية السورية التي هي نواة الوحدة العربية». وفي بعض رسائله (1930)، حرص القائد العام على التأكيد على عدم انتمائه إلى الأحزاب المتنافسة ووقوفه مع استمرار الثورة، كي تكون سورية متّحدة ومستقلّة.
كان السياسيون دوماً يراسلونه لأخذ رأيه في أثناء سنوات المنفى العشر، فانعقد مؤتمر الصحراء برئاسته في أكتوبر 1929، وحضره وطنيون كثر. فاتُخِذَت قرارات من ستة بنود، كان لها الأثر الأكبر في استمرار المفاوضات السياسية مع ممثّلي الفرنسيين، أهمها «استنكار الثوّار في الصحراء لتعطيل أعمال الجمعية التأسيسية في سورية وتصريحات بونسو الذي تجاهل القضية الوطنية السورية، واستنكارهم لمقرّرات مؤتمر زيوريخ الصهيوني واعتداءات اليهود على العرب، مطالبين وزارة العمال البريطانية بإلغاء وعد بلفور والاعتراف بحقوق العرب الوطنية وسيادتهم في بلادهم لضمان السلام العالمي».
هذا الإنسان الذي أدرك مبكراً مطامع الاستعمار في بلادنا، رفض أيّ منصب سياسي في الحكومة الوطنية، بعد استقلال سورية (1946)، كما رفض أيّ مقابل مادي. لم يكنْ يقول للرؤساء العرب إلّا أمراً واحداً: «حافظوا على استقلال البلاد الذي دفعنا أرواحنا ثمناً رخيصاً له»، فهو دائمَ التوجّس من المطامع الاستعمارية. ووصيته المنشورة تشهد على ذلك، وهو الثائر السوري الوحيد الذي ترك وصية سياسية.
من المهم التأكيد على أنّ القائد العام قد قرّر إعداد حملة كبيرة إلى إقليم البلّان، في سفوح جبل الشيخ، وحملة أخرى لنجدة الثوار في غوطة دمشق وتسيير حملة ثالثة إلى حوران[5]. إضافة إلى امتداد الثورة شمالاً بقيادة القاوقجي الذي كان يطلب السلاح والرجال من الجبل[6].
لم يتخلَّ عن شعار، «الدين لله والوطن للجميع»، رافضاً تقسيم البلاد طائفياً. فالثورة بشعارها وأهدافها واضحة في ذهن قائدها منذ انطلاقها، وهي: وحدة البلاد السورية، ساحلاً وداخلاً والاستقلال التام. هذا ما أعلنه سلطان الأطرش في بيانه «إلى السلاح».
في المكتبة الوطنية، وثيقة يعترف فيها القنصل البريطاني في المشرق لوزارة خارجيته أنّ سلطان الأطرش رفض بعناد التعاون مع بريطانيا: «سلطان الأطرش لا يمكن شراؤه»[7]. وقد رفض سلطان عرض الملك جورج الخامس (1927):
قابل المعتمد البريطاني، مندوباً عن الملك جورج الخامس، سلطان الأطرش في الأزرق (1927) لبحث أمر ترحيل الثوار الذين رفضوا إلقاء السلاح، وعلى رأسهم سلطان؛ وقد حاول المعتمد إقناع سلطان بضرورة إنهاء الثورة، وعرض عليه عَرْضاً مَلَكياً: السكنى في قصرٍ في القدس، إضافة إلى راتب شهري مغرٍ مدى الحياة من المملكة البريطانية. غير أنّ سلطان أجابه: «إنّ سعادتنا هي في استقلال بلادنا ووحدتها وحرية شعبنا وجلاء القوات الأجنبية عن البلاد».
أما الباحثة الفرنسية لينكا بوكوفا، فقالت عن سلطان: «لولا هذه الشخصية الصلبة لما قامت الثورة السورية الكبرى» التي التفّ الفقراء (مرقّعو العبي) حولها، وكذلك الوطنيون السوريون.
ومن الضروري هنا إيراد جزء مما كتبه منصور الأطرش في مقالته: المبادرة في التاريخ[8].
«… يجب التفريق بين المبادرين والمستجيبين على ضوء تطوّر الحدث. فالمبادِر أنجز ما عليه. لقد أحسن قراءة الأحداث وأشعل فتيل الحدث العظيم. والمستجيب فضله كبير منذ الخطوة الأولى …
لم تكن ثورة 1925 أعمالاً حربية خارقة فحسب…؛ إنما كانت… »مبادرة« رافضة للاستسلام…؛ فالغزاة يجب ألّا يهدأ لهم بال مهما طال مقامهم…
عندما غادر الملك فيصل دمشق مذعناً لإنذار الجنرال غورو، بادر سلطان بإرسال حمد البربور في أعقاب فيصل ليدعوه إلى الجبل بقصد تأسيس مقاومة مسلّحة حفاظاً على شرعية السلطة الوطنية واستمرارها…».
لا شكّ أنّ وعي سلطان لأهمية دوره الوطني جعله يقف ضد العدو الصهيوني، من أجل استعادة الأرض المغتصبة في كل بقاع الوطن.
وبناءً على إيمان سلطان الأطرش بحقّ الفلسطينيين في أرضهم وببطلان الاستيطان الصهيوني فيها، رفض التفاوض مع الصهاينة، وكان يرسل السلاح، تهريباً مع المجاهد شكيب وهّاب، من الكرك إلى الثوار في فلسطين 1936. وسلطان من بين خمس شخصيات سورية رفضت هذا التفاوض.
جرّد الشيشكلي حملة عسكرية ظالمة ضد السويداء، ظنّاً منه أنه بهذا سيثبّت أركان حكمه الذي جابهه الأحرار.
ارتقى في جبل العرب حوالي مئة شهيد أعزل، أي، شهيد من كل خمسمئة إنسان. وارتُكِبَت فظاعات بحقّ دار سلطان، بعد أن تركها وتوجّه إلى الأردن حقناً للدماء. قال سلطان حينها جملته الشهيرة: «أنا أرفض مواجهة الجيش السوري بالسلاح، فهؤلاء هم أبنائي»!
ذهب سلطان وصحبه سيراً على الأقدام، في الثلوج، من ضيعته، القريّا، إلى الأردن. كان له من العُمْر حينئذٍ 66 سنة. ولدى وصوله إلى الحدود الأردنية، أرسلتْ الحكومة سيارة عليها العَلَم البريطاني، فرفضها، رغم أن حياته في خطر. فحتى في أحلك الظروف، الباشا سلطان لا يلجأ إلى الأجنبي! فاضطرّت الحكومة الأردنية إلى إرسال سيارة أخرى عليها العَلَم الأردني. فقَبِلَ، ودخل بها الأردن. بقي سلطان وصحبه هناك إلى أن سقط حكم الشيشكلي! فعاد مظفّراً للقريّا.
وحين جاء الناس لتهنئته بمقتل الشيشكلي، أجابهم: «أنا لم يعد لي علاقة بالشيشكلي مُذْ ترك الحكم. واغتياله تصرّف فردي، ونحن لا نثأر ولا نشمت بالموت»!هذه ثلاثة دروس هامّة علّمنا إيّاها سلطان الأطرش!
لم يتخلَّ سلطان الأطرش عن شعار الثورة، «الدين لله والوطن للجميع»، الذي شكّل صفعة، في وجه الفرنسي، رفضاً لتقسيم البلاد على أساس طائفي.
كتب سلطان الأطرش لشقيقه زيد، قائد حملة إقليم البلّان: «حافظوا على المسيحيين وإياكم أن تجعلوا أحداً يأتيهم بسوء. أمّنوهم على أنفسهم وحياتهم وأموالهم وامنعوا التعدّيات عنهم لأننا كلّنا أبناء وطن واحد وكلّنا عرب سوريون على حد سواء»[9]. إنه وعي عظيم من القائد العام بالمواطنة الكاملة والمتساوية.
أختم بخاطرة كتبها سلطان الأطرش في وثيقة (1961):
« قالوا إننا قطفنا ثمرة جهادنا، ثمرة تلك الشجرة التي جدلنا ترابها بدمانا. كلا، إنّ هذه الثمرة لم تعقد بعدُ؛ إنّ جهادنا لا يزال في دور الزهرة ولم يصبح بعدُ ثمرة، لأننا لا نريد قطفها ونحن مشتركون كلّنا كعرب.
أبناء الثورة وصغار الصحراء، هكذا نذرنا أنفسنا لنكون قرابين تضحّي على مذبح العروبة.
لن تثمر ما دامت أغصانها متلبّسة بالحشرات الفتّاكة… لن تثمر حتى يتعالى صوت فلسطين بالحرية وأنْ يزول شبح المطامع عن العراق ومصر وشرقي الأردن. فبعد ذا، يا حبذا ثمراً ناضجاً شهيّاً، رمزاً لأجيال حملوا مشعل الحضارة، ولن يخبو نوره بعد الآن[10]».
إذن، علينا مواجهة المشاريع الاستعمارية في فلسطين والجولان وسورية والعراق ومصر ولبنان، بتحقيق الديمقراطية والمواطنة وحرية الإنسان، وبشعار، «الدين لله والوطن للجميع»، وبإيقاد جذوة الثورة كثالث ثورة عالمية، بعد الفرنسية والبلشفية، حسب فلاديمير لوتسكي[11].
[1] المذكرات الحقيقية لِ سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى: وثائق من أوراقه ١٩١٠-١٩٨٩، بيروت، دار أبعاد،2021، 5 ج.
[2] المرجع السابق، ج 1، الوثيقة 76.
[3] أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش، مراجعة وتمهيد منصور سلطان الأطرش، دمشق، دار طلاس، 2008، ص. 219.
[4] ـ المذكرات الحقيقية…، ج 2، الوثيقة 145.
[5] ـ أحداث الثورة…، ص. 147.
[6] ـ المرجع السابق، ص. 211 -212.
[7] ـ أرشيف المكتبة الوطنية، دمشق Documents of the British Colonial about Syria 1921 – 1944; 1947; 1949
[8] ـ الإصلاح في سوريا، منصور سلطان الأطرش، تحقيق د. ريم منصور الأطرش، بيروت، دار الفرات، 2014، ص. 106- 110.
[9] ـ المذكرات الحقيقية…، ج 1، الوثيقة 100.
[10] ـ المرجع السابق، ج 5، الوثيقة 770.
[11] ـ الحرب الوطنية التحرّرية في سوريا 1925-1927، فلاديمير لوتسكي، تعريب د. محمد دياب، بيروت، دار الفارابي، 1987.
د. ريم منصور سلطان الأطرش