بعد كلّ ما تقدّم في الحلقات السابقة، السؤال هل لبنان (والسؤال يشمل كيانات الأمة الأخرى) قادر على استيعاب كفاءاته؟
لبنان من خلال موقعه ودوره الريادي في محيطه الطبيعي وعالمه العربي قادر على استيعاب أدمغته وشبابه واستعادة من هاجر منهم، لو قيض لهذا البلد أن تدير شؤونه طبقة سياسية كفؤة متنورة تقدم مصلحته العليا على منافعها الفردية-الفئوية، طبقة سياسية تلتزم حقيقة بالأنماء، والاعمار، والنهوض والتقدم.
إنّ الشباب المثقف بالوعي القومي هو عماد مستقبل هذا البلد، وعلى عاتقه تقع مهمة انتاج المؤسسات التي تؤمن الاستقرار السياسي المدخل الالزامي لكل اصلاح وخلاص، وهو المؤهل لقيادة «ثورة ثقافية» عقلانية على طبقة سياسية عفنة تسودها الفوضى والسخافة، تحكم ولا ترعى، تأخذ ولا تقدم، تأمر ولا تقود، وتقدر العدد أكثر من النوعية، وتحل الجهل محل الحكمة، لا تثق بالمقدرة والكفاءة والمواهب، تخاف من المعرفة والحق، شعارها الملك اساس العدل.
تتجه الشعوب في الأزمنة العصيبة نحو حكمائها لانقاذها، ووضع مبادئ حياتها وحقوقها ونهوضها وقيادتها نحو الأفضل.. فالويل ثم الويل لأمة كثر فيها حكامها، وقل حكماؤها، كان أرسطو يقول: لن يكون الحكم صالحا، الا في دولة حكماؤها حكامها.
نحن اليوم في دولة حكامها ليسوا بحكمائها، إذا، نحن في دولة الحكم فيها غير صالح، وحتى يستقيم الحكم على الحكام أن يتركوا الحكم للحكماء، فالحكام هم موظفون عند مواطنيهم، وكما قال الفيلسوف ابو العلاء المعري: « ان الموظفين اجراء الرعية استأجرتهم بما تدفعه من الضرائب والمكوس ليؤدوا ما تكلفهم به من الأعمال، فاذا لم يؤدوها على خير الوجوه، وإذا لم يراعوا في ادائها القسط والعدالة، كان للرعية ان تحرمهم من أجورهم، وتسترد منهم مناصبهم.
ظلموا الرعية واستجاروا كيدها فعدوا مصالحها، وهم أجراؤها»
كان سقراط يعلم: ان ادارة الدولة مسألة تحتاج الى أفكار أعظم العقول وأحسنها.. اذ كيف يمكن انقاذ مجتمع أو جعله قويا، الا إذا تولى أمر هذا المجتمع أحكم رجاله وأعقلهم. ولن يكون الحكم صالحا الا في دولة حكماؤها حكامها!
إنّ أحكم الرجال هم أصحاب الأدمغة الوطنية المتحررة الملتزمة بقضية الشعب الكبرى في حياة حرة كريمة، فاذا جوّف المجتمع من أحكم رجاله وأعقلهم وأقواهم تحول هذه المجتمع الى جيفة وجحيم، منه يفر أبناؤه او يموتون، ويصح بأدمغتنا حينها قول الشاعر:
العقل في بلادنا ارتطــم تيجانه موصولة بالقـدم
أكاد من حزني على حزنه أهزأ من اصابعي والقلم
والحديث عن العقل، ليس غريبا عن هجرة الادمغة، التي ترتبط اساسا بحركة العقل، يقول د. بولس سروع: «والعقل كي يكون عقلا، عليه أن يعيش غريزة المعرفة، وأن يكون دائم الفعل والحركة، وإلا لا يكون عقلا، ومتى توقف العقل عن طلب المعرفة، يتوقف عن كونه عقلا، والانسان يتوقف عن كونه انسانا. المعرفة بطبيعتها حلولية، ولاسيما أنّ هناك وسائل وجب على الانسان ان يتناولها، ويتابع سروع: دائما هناك نوعان من الحركة نعبّر عنهما بالاغراب أو التماهي؛ فعندما يشعر الانسان أنه غريب في مجتمعه ومحيطه، يجنح الى مجتمع يجد نفسه فيه، أما إذا بقي في مجتمع غريب عنه، فانه يحاول تغيره بما يمليه عليه فكره من بدائل، هذه مبادئ الثورة. لكن إذا لم يرد الانسان مجابهة الواقع، نراه يفتش عن واقع آخر يمكن أن يتماهى معه، ويجد نفسه ممثلا به. وما بين هاتين الحركتين، يمكن فهم حركة العقل، ولاسيما أن العقل عندما يقابل بكثير من المسائل والحلول المكانية تبدو له مستعصية، يضطر عندها العقل أن يفتش لصاحبه عن مكان آخر يعيش فيه»، جريدة «الأنوار»، بتاريخ 11-8-2002، ص13.
وبمناسبة الحديث عن العقل، يذكر ان والدة الاسكندر المقدوني سجدت ليلة ولادة ابنها تحت نجوم السماء، وتضرعت للإلهة ان تهب ابنها حظا يخدمه اصحاب العقول لا عقلا يخدم اصحاب الحظوظ!
وهنا، اتوقف، وللعبرة، امام عنوان التحقيق الصحفي، الذي نشرته جريدة «السفير» في عددها الصادر يوم الاثنين 21-1-2008، ص8، وجاء في العنوان:
ما تفرقه « الموالاة» و « المعارضة» تجمعه السفارات، التي أكّدت في إحصائياتها ارتفاعا ملحوظا في عدد الطلاب الراغبين بالدراسة في دولها، وعلى رأسها الفرنسية والكندية والأسترالية التي تشهد تهافتا غير عادي، حتى أصبحت أبواب السفارات ملتقى للطلاب اللبنانيين من كلا الاستقطابين الموالاة والمعارضة.
إنّ الشباب اللبناني، الذي يواجه اليوم أزمة بطالة مخيفة، وقد دلّت إحصاءات العام الماضي إنّ الجامعات خرّجت ما يقارب 41000 طالب، وإنّ 7 ألاف فقط منهم من نجح في ايجاد وظائف له، وفي غالبيتها لا تتناسب مع اختصاصه! وقد اتجه قسم كبير منهم نحو التخلي عن الوطن، وركض بقدميه نحو الهجرة المستترة تحت غطاء الدراسة والعمل بعد أن تأكد له أن حل أزمة بلاده قد يطول ويطول بينما الحياة لا تنتظر.
حقا إنّ حياة الوطن لا تنتظر، وهي تناشد أبناءها البقاء في وطنهم، والصراع معا من أجل انقاذه، واستلام دفة القيادة فيه، والتوجه به نحو شاطئ الأمان والخير، نحو قمم المعرفة والقوة.
وفي الوقت الذي يدخل العالم فيه عصر المعرفة، عصر القوة الفكرية غير المحدودة، عصر صراع الأدمغة، زمن الذكاء الاصطناعي، تتطلع الأمة الى قادة الفكر فيها لانقاذها من الويلات التي تتخبط بها، وانتشالها من قبر التاريخ. وأننا على ثقة تامة أن في هذه الامة ومهاجرها قوة فكرية متنورة حكيمة قائدة قادرة على خدمتها بأمانة واخلاص، عاملة على تمكين العقل الصحيح من السيطرة على الاوهام السقيمة، رامية الى الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي الذي هو اساس صحة الامم وتقدمها.
ان في حكمة ادمغة هذه الامة، وفي عزيمة شبابها الملتزم بنهضتها قوة فاعلة وقادرة على تغيير مجرى تاريخها، باتجاه أن نكون مجتمعا منتجا متقدما وقويا، يحتل مكانه اللائق بين المجتمعات الانسانية الحرة.
لقد ناشد جبران، بالأمس، أبناء هذه الأمة المنتشرين في العالم أن يقفوا امام ابراج نيويورك وشيكاغو وواشنطن وسان فرنسيسكو قائلين في اعماقهم: انني المتحدر من شعب بنى دمشق وبيبلوس وصور وصيدون وأنطاكية، وانني الآن هنا لابني معكم بعزيمة وارادة. إن الأمة تناشد، اليوم، أبناءها أن يقفوا من جديد أمام تلك الأبراج ويناشدوا العالم على معاونتهم لإنقاذ هذه الآمة، التي بنت أمجادهم، من الخطر اليهودي الذي يهدّد مستقبلها ورسالتها ووجودها.
إنّ رسالة امتنا، كانت وستبقى، هي رسالة البناء، ولن نتنازل عن رسالتنا لأي شيء في العالم، وستبقى عقول المبدعين من شعبنا وسواعدهم القوية الوجه الحضارى لانسانية جديدة مبدؤها المحبة، والخير العام،والعدالة والحرية .