فلسطين وأيرلندا؛ علاقة وثيقة بفضل النضال للحق والحرية

أبلغ تعبير للحالة التضامنية اللافتة التي تربط بين الإيرلنديين والفلسطينيين هو ما قاله رئيس وزراء إيرلندا السابق ليو فاراكدار أمام الرئيس الأمريكي جو بايدن (ذو الأصول الأيرلندية) في آذار 2024 في البيت الأبيض حين قال «نرى تاريخنا بعيون الفلسطينيين». وهذا ما يدلّ على تاريخ التضامن الدائم مع الفلسطينيين، والتزام أيرلندا دعم المسألة الفلسطينية ومناهضة الاحتلال «الإسرائيلي» وتحديه في جميع المحافل الدولية.

حين نرى ذلك التعاطف والتضامن سياسياً وإنسانياً وحتى فنياً مع فلسطين يتبادر إلى الأذهان التشابه بين النضال الفلسطيني والتجربة الإيرلندية حيال الاحتلال والاستعمار.

فنانون وسياسيون ومسؤولون آيرلنديون أعلنوا منذ بداية الحرب على غزة والغزاويين تضامنهم الفعلي معهم وليس بالقول فقط، وعلى كافة المستويات. ويظهر ذلك في تصريحات القادة السياسيين الأيرلنديين الذين يقارنون بين مقاومة أيرلندا للاستعمار البريطاني ونضال الفلسطينيين ضد الاحتلال الصهيوني. ويمكن القول إن الإيرلنديين فضحوا الإبادة الجماعية في غزة، وساهموا في زيادة الوعي بالمسألة الفلسطينية، بالإضافة إلى تقديم الدعم المالي لوكالة الأونروا في مواجهة الأزمات الإنسانية وتقديم المساعدات الإغاثية والإنسانية لغزة والضفة الغربية، وكذلك للاجئين الفلسطينيين أينما يحلّون. وفي هذا المجال، تتبرع أيرلندا بـعشرة ملايين يورو سنوياً لفلسطين، يذهب ثلثها ل «الأونروا». ورغم محاولات العدو الصهيوني إسكات هذا الصوت الأيرلندي المدوي، ظلت إيرلندا بمسؤوليها ومواطنيها على مواقفها الثابتة حيال الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

الجدير ذكره أن تعاطف إيرلندا مع الفلسطينيين أخذ عدة أشكال، منها تنظيم المظاهرات في المدن والبلدات الأيرلندية، والقيام بأنشطة إعلامية، وتنظيم العرائض، والضغط على السياسيين، وحشد المؤيدين لاتخاذ الإجراءات تجاه الهجمات «الاسرائيلية» على قطاع غزة.

النقابات التي تلعب دوراً فاعلاً في إيرلندا، لا سيما التجمع الأيرلندي للنقابات العمالية، سجلت وتسجل مواقف متشددة في دعم حملة مقاطعة «إسرائيل» وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS). وتُعتبر في طليعة المعبرين عن غضبهم على ما يقترفه الكيان الصهيوني من أعمال وحشية، وكذلك في الضغط على الحكومة الأيرلندية لاتخاذ الإجراءات اللازمة.

من جهته لم يكن الجسم الطبي في إيرلندا في منأى عن أجواء الدعم لقطاع غزة وأهله إذ كان لأعضاء النقابات الطبية الأيرلندية مشاركات في عدد من المظاهرات ضد الهجمات «الإسرائيلية» على طواقم المسعفين في غزة، معتبرين أنها تمثل جريمة حرب بشكل واضح ولا يمكن تبريرها، ويجب إحالتها فوراً إلى المحكمة الجنائية الدولية.  

مقاطعة الكيان الصهيوني شملت أيضاً القطاع الثقافي والأكاديمي، ويعتبر توقيع الفنانين الإيرلنديين على تعهد المقاطعة الثقافية مؤشراً آخر على تزايد الدعم لفلسطين. فقد ازداد عدد الفنانين من 140 فناناً الى أكثر من 460، منهم الروائيون، والشعراء، والرسامون، والنحاتون، وصناع الأفلام، والراقصون، والمؤلفون، والموسيقيون، وسواهم.

من المفيد الحديث عن تاريخ موقف الدولة الايرلندية حيال «قضية فلسطين» الثابتة منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ففي العقد الأول من القرن العشرين، حينما فرضت بريطانيا سيطرتها على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، كانت أيرلندا تعيش في أوج كفاحها من أجل الاستقلال عن بريطانيا العظمى. وقد رأى الأيرلنديون في انتفاضات الفلسطينيين ضد الانتداب البريطاني أصداءً لنضالاتهم، وهو ما خلق شعوراً بالتعاطف العميق تجاه الفلسطينيين.

أكثر من ذلك، عارضت إيرلندا في عصبة الأمم، الخطة المقترحة لتقسيم فلسطين الانتدابية ودعمت معاملتها كوحدة واحدة تتم إدارتها وفقاً لرغبة سكانها. وكانت ايرلندا أول عضو في الاتحاد الأوروبي يعلن أن حل الصراع في منطقتنا يجب أن يكون مبنياً على الاعتراف بسيادة كاملة لدولة فلسطين.

في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، دعمت منظمات أيرلندية القضية الفلسطينية علناً، مستفيدة من نجاح الثورة الأيرلندية لإبراز المعاناة الفلسطينية. ومنذ انضمام أيرلندا إلى المجموعة الأوروبية عام 1973، كانت الحكومات الأيرلندية في طليعة مناصري القضية الفلسطينية داخل القارة العجوز. في عام 1980، كانت إيرلندا أول عضو في المجموعة الأوروبية يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية، وفي عام 1993، كانت آخر من افتتح سفارة «إسرائيلية» في العاصمة دبلن. ومنذ عام 2006، استمرت ادانات ايرلندا لحصار قطاع غزة، وفي 2008 وصف وزير الخارجية آنذاك «ديرموت أهيرن» الحصار بأنه «عقاب جماعي وغير قانوني بموجب القانون الدولي». وفي تشرين الثاني من عام 2012 صوتت ايرلندا لصالح اعتماد فلسطين عضو مراقب في الأمم المتحدة. في أيار 2021، أصبح البرلمان الأيرلندي أول برلمان أوروبي يُدين رسمياً «الضم الفعلي» للأراضي الفلسطينية.

ومما لا شك فيه أن هذه المواقف الإيرلندية أثارت وتثير غيظ الكيان الصهيوني الذي بات يعتبر أن إيرلندا أصبحت «الدولة الأكثر عداءً لإسرائيل في أوروبا»، مما يفاقم التوترات بين الطرفين لا سيما منذ السابع من أكتوبر 2023. وظهرت هذه المواقف في تصريحات قوية من المسؤولين الأيرلنديين تبعتها تحركات سياسية ودبلوماسية وشعبية لمحاصرة الكيان الصهيوني. ووصلت ذروة التوتر بين الطرفين خلال الحرب على قطاع غزة، بعد إعلان دولة الاحتلال إغلاق سفارتها في دبلن بشكل رسمي في كانون الأول من عام. 2024 وتعتبر دبلن أول مدينة أوروبية تعتمد مقاطعة بضائع مستوطنات الضفة الغربية، وقد تبعت السياسات الأيرلندية عدد من الدول الأوروبية. وذهبت ايرلندا أبعد من ذلك حين أبلغت وزارة النقل الأيرلندية شركات الطيران في آب 2024 أنها تمنع مرور الرحلات التي تحمل أسلحة ومعدات عسكرية «لإسرائيل» عبر مجالها الجوي. وكانت في أكتوبر 2023، قد دعت الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم اتفاقيات الشراكة التجارية مع «إسرائيل». وأثارت هذه الدعوة نقاشات واسعة داخل الاتحاد الأوروبي. ففي حين دعمتها بعض الدول مثل إسبانيا وبلجيكا، عارضتها دول أخرى مثل فرنسا والمانيا تحت تأثير الضغط «الإسرائيلي». ولم تنجح «اسرائيل» في عزل إيرلندا سياسياً رغم محاولاتها التأثير على الاتحاد الأوروبي.

وأخيراً وفي سياق الخطوات الايرلندية لإدانة «إسرائيل» انضمت إيرلندا في كانون الأول من 2023، إلى دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، والتي تتهم «إسرائيل» بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.