يبدو أن الرئيس الاميركي دونالد ترامب لا يبالي بالحرية الأكاديمية وحرية التعبير في المؤسسات الجامعية لا سيما العريقة منها، في بلد تُعتبر حريات التعبير فيه «مقدسة»، لا بل يعمل للضغط على كل صرح جامعي يعتبر حاضناً لحرية التعبير والاحتجاج والتظاهر ضد التطهير العرقي الذي يقوم به الكيان الصهيوني في قطاع غزة. هذا التصعيد بلغ مستوى عال في الصراع الدائر بين مؤسسات التعليم العالي والرئيس ترامب الذي تعهد بـ «استعادة» جامعات النخبة،لكنه بالمقابل قد يودي بكل ما تغنت به الولايات المتحدة الأميركية من نظريات لحرية التعبير الى الاندثار
شرارة التجاذب بين الجامعات الأميركية وإدارة الرئيس دونالد ترامب انطلقت في نيسان 2024 بعد حرب السابع من تشرين الأول سنة 2023 على قطاع غزة. اجتاحت الاحتجاجات والمظاهرات الطلابية الداعمة لفلسطين الجامعات، بدءاً بجامعة كولومبيا الأميركية مروراً بجامعة هارفرد وصولاً إلى أكثر من 50 جامعة في الولايات المتحدة. أما الشرطة من جهتها فقد عمدت إلى احتجاز أكثر من ثلاثة آلاف شخص، معظمهم من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس. وإزاء هذا الوضع تحركت الإدارة الأميركية لاتخاذ عدد من الاجراءات التي تقيد حرية الطلاب ولا سيما الأجانب غير الأميركيين المسجلين في هذه الجامعات من جهة، فارضة على الجامعات تنفيذ عدد من المطالب لضمان استمرار الدعم الفدرالي المالي لها والذي تقدر قيمته بمليارات الدولارات من جهة أخرى.
إلا أن الإدارة الأميركية تركز إجراءاتها على جامعة هارفرد، متهمة قيادتها بتحويل «مؤسستهم العظيمة في السابق إلى حاضنة للمحرضين المناهضين لأميركا والمعادين للسامية والمؤيدين للإرهاب». جامعة هارفارد من جهتها تفيد أن لديها 9970 طالباً ضمن مجتمعها الأكاديمي الدولي، وتشير البيانات إلى أن 6793 طالباً دولياً يشكلون 27,2% من إجمالي عدد المسجلين في العام الدراسي 2024-2025.
وللتشدد في الحصار على جامعة هارفرد، أعلنت الإدارة الأميركية في 20 أيار الحالي حجباً جديداً قدره نحو 60 مليون دولار من التمويل الفيدرالي لهذه الجامعة بسبب ما اعتبرته تقاعساً منها عن اتخاذ إجراءات كافية ضد المظاهرات الطلابية المؤيدة لفلسطين.
وزعمت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية أن جامعة هارفارد التي برزت بين الجامعات التي شهدت مظاهرات داعمة لفلسطين «فشلت في التعامل مع المواقف المعادية للسامية والتمييز القائم على أساس العرق».
وكانت إدارة الرئيس ترامب قد جمدت أو أنهت منحاً وعقوداً فدرالية للجامعة بقيمة تقرب من ثلاث مليارات دولار خلال الأسابيع الأخيرة، فضلاً عن استخدامها التخفيضات المالية والتحقيقات في الجامعات للضغط على إداراتها لمنع المظاهرات الطلابية الداعمة لفلسطين. هذه الضغوطات تقوّض دور الطلاب والأساتذة الجامعيين غير المثبتين في نظام الجامعة تثبيتاً كاملاً، وتجعلهم غير قادرين على لعب دور في قرارات الجامعة الإدارية.
أبعد من ذلك ذهبت ادارة ترامب بمطالبة الجامعة بإجراء إصلاحات أساسية في عملية قبول الطلاب الأجانب وإخطار وزارة الأمن القومي والخارجية الأميركية بأي نشاطات أو تجاوزات أكاديمية أو غيرها لأي طالب من طلاب الجامعة الأجانب، مما سيؤثر تأثيراً كبيراً في مبادئ الخصوصية التي يتمتع بها الطالب الجامعي عموماً في أميركا.
كما طالبت الإدارة الأميركية أيضاً بإجراء إصلاحات في البرامج الأكاديمية بما فيها برامج دراسات الشرق الأوسط وحقوق الإنسان ودراسات الشرق الأدنى وإخطار الجامعة بأي تمييز ضد أي طالب يهودي أو «إسرائيلي» خاصةً بعد أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023.
وطالبت أيضاً بتشكيل هيئة خارجية مستقلة عن الجامعة لمراجعة وتدقيق الإصلاحات الإدارية المتعلقة بتنوع الآراء في أوساط الطلاب وأساتذة الجامعة والإداريين، في نزعةٍ تهدف لتوطيد التيارات المحافظة داخل الجامعة مما سيشكل تدخلاً سافراً في استقلالية هذه الجامعة الخاصة وحريتها الأكاديمية وقدرتها على الحفاظ على إرثها التاريخي كأول وأعرق جامعة أميركية.
إزاء هذه المطالبات التي تمس جوهر التعليم الجامعي وحرية المنتسبين إلى الجامعات وتقييد نهج الهيئة التعليمية، رفضت إدارة جامعة هارفارد مطالب ترامب، مع إدراكها أن مثل هذا الرفض سيضع الجامعة في مواجهة مباشرة مع إدارته، وربما يجلب لها المتاعب والصعوبات الكثيرة، لا سيما التهديد بإلغاء امتيازات الإعفاء الضريبي للجامعة، مما تعتبره هارفرد عقاباً قاسياً لها، خصوصاً أن هذه لامتيازات تمكّنها من القيام بدورها دون تحمل الأعباء الضريبية الباهظة.
وللضغط أكثر على الطلاب الأجانب الجامعيين حاولت إدارة ترامب أيضاً استخدام أسلوب إلغاء تأشيرات الإقامة للطلاب الأجانب كوسيلة للضغط على الجامعات الأميركية، حيث قامت بإلغاء أكثر من ألف تأشيرة إقامة للطلاب الأجانب الدارسين في الولايات المتحدة الأميركية.
ويشكّل الطلاب الأجانب جزءاً أساسياً في رفد الجامعات الأميركية بالكفاءات العالية من كافة أنحاء العالم، وكذلك في رفد ميزانياتها برسوم الطلاب الوافدين التي تعتبر ضعف ما يدفعه الطالب الأميركي العادي. وعلى سبيل المثال تبلغ تكلفة الدراسة الجامعية السنوية لطالب الإجازة الجامعية في جامعة هارفارد -بما فيها تكلفة السكن الجامعي- حوالي تسعين ألف دولار أميركي سنوياً.
يكفي أن نشير إلى أن جامعة هارفرد هي إحدى الجامعات العالمية المرموقة المتميزة بإسهاماتها العلمية العريقة مما يُعدّ مصدراً أساسياً لرفد الاقتصاد الأميركي والعالمي بالاختراعات العلمية الحديثة في شتى مجالات الحياة المختلفة. وتبلغ التكلفة التشغيلية السنوية لجامعة هارفارد أكثر من ست مليارات دولار أميركي سنوياً، والراتب السنوي لرئيس جامعة هارفارد يقدّر بحوالي مليون دولار أميركي، أي أكثر من ضعفي الراتب السنوي للرئيس الأميركي. ويبدو أن الجامعة موضوعة اليوم بين مطرقة مطالب دونالد ترامب وسندان احتمال فقدان الدعم الفدرالي المالي، وكذلك الامتيازات الضريبية التي تتمتع بها. ونتيجة هذا الوضع قد تكون جامعة هارفرد وسواها من الجامعات الأميركية مقبلة على فترة حرجة.