في العدلية هُزمت فرنسا.. وهذه سيناريوهات الاستثمار الأربع

لم يكن حضور الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى بيروت بعد انفجار الرابع من آب سوى استثمار فرنسي للحظة حالكة أرادت فرنسا من خلاله إعادة تثبيت قدمها في الشرق الأوسط. التقى المسؤولين اللبنانيين وأملى عليهم بسلاسة تسمية السفير مصطفى أديب رئيسًا مكلّفًا تشكيل الحكومة. عوّل كثر حينذاك على عودة فرنسا للساحة، معتبرين أنّ القضاء على المنظومة السياسية سيكون بأيادٍ فرنسية تستبدل النادي السياسي التقليدي بوجوه ثورة 17 تشرين وما دار في فلكها. بين ليلة وضحاها، اعتذر أديب وتراجع الفرنسيون خطوات إلى الوراء، بفعل فاعل.
بالتزامن، كانت كل من الحكومتين الأسترالية والسويسرية قد تراجعتا عن اتفاقيتين تم توقيعهما مع فرنسا من أجل شراء غواصات عسكرية بحرية بقيمة 90 مليار دولار. في الحادثتين كلمة سرّ أميركية كانت دائمًا خلف صفع الفرنسيين.
هذا الصراع على النفوذ عاد ليظهر اليوم، ولكن في القضاء اللبناني. فبعد حوالي العامين من تعنّت القاضي طارق البيطار في ممارسة سلطته القضائية في ملف التحقيق، بدعم فرنسي مطلق، أتت الصفعة الأميركية من جديد بكسر قرارته من أجل اطلاق سراح الموقوفين بشكل اعتباطي. لم تتحوّل سفيرة الولايات المتحدة في بيروت إلى سفيرة للسلام والعدالة بخطوتها تلك، ولكنها مارست سياسة بلادها العليا في قمع الفرنسيين أينما وُجدوا وسعوا إلى السيطرة. وكي لا يعتقدنّ أحد أن الأميركيين أغاثوا الموقوفين المظلومين بدفعهم نحو قرارات اخلاء السبيل، آثر هؤلاء ضرب السيادة اللبنانية من جديد عبر تهريب الموظف في مرفأ بيروت محمد العوف رغم قرار النيابة العامة التمييزية بمنع المخلى سبيلهم من السفر.
حسنًا، كباش أميركي فرنسي انتهى لصالح الأميركيين، ولكن كيف سيقرّش لبنانيًا؟ في الواقع كان سيناريو الاستثمار جاهزًا. خلال أقل من 12 ساعة ركبت المعارضة الموجة، نوّاب التغيير والقوّات والكتائب وما تيسّر من مستقلّين ومرشّحين رئاسيين، فتوجّهت نحو قصر العدل لتكمل لوحة تفجير القضاء من الداخل، المؤسسة التي أوقفت القوّات اللبنانية ومعها باقي أحزاب المنظومة قانون استقلالية القضاء منذ أكثر من سنتين، حيث يبقيه رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان نائمًا في أدراج لجنته النيابية.
مشهد الفوضى داخل قصر العدل أُريد له أن ينسحب على الخارج. لم يُحسن هؤلاء توتير الشارع في حينه، وربّما لم يحن الوقت، ولكن في الواقع هناك عصافير عديدة بدأ العمل عليها:
1- مطلب تدويل التحقيق صبيحة الخامس من آب 2020 باتت أرضيته اليوم أمتن، فبعدما طالبت به القوات اللبنانية وحدها سابقًا، وبدا الخجل على تصريحات الآخرين الذين كانوا يبدون في العلن ثقتهم في القضاء، بات الصراع القضائي اليوم شمّاعة يبني عليها هؤلاء مطلبهم. تدويل يعني أن ما فشل به 17 تشرين يجب أن ينفّذ من محاصرة لفريق سياسي معيّن وجرّه نحو زاوية من الاتهامات لا تنتهي لا بعام ولا باثنين. بالطبع، هذا الأمر لا يمكن له أن يمر في ظل وجود حكومة سيادية من الدرجة الأولى برئاسة نجيب ميقاتي، الجبل الذي يستند شرفاء البلد عليه! وعليه، كل الإحتمالات مفتوحة..

2- ولأن البلاد اعتادت أن تنتهي فترات الفراغ بسدة الرئاسة الأولى بتصعيد أمني وسياسي ينتهي برعاية خارجية للحل، تفاءل البعض بعد قرار المدعي العام التمييزي غسان عويدات، كون مؤشرات الفوضى الأمنية بدأت لتتضح أكثر. رهان هؤلاء هو على فوضى محدودة الرقعة والحجم، تُلزم الأفرقاء السياسيين على السير بحلول تنهي الفراغ لا يمكن لهم أن يقبلوا بها في مراحل الاستقرار الأمني. ولكن، هل تشبه هذه الفترة أشهر ما بعد 17 تشرين، فيبقى الأمن ممسوك رغم الضغط؟ هنا تتعلّم طاولات القمار فن اللعبة من أسيادها، هواة لعب لعبة الرئاسة فوق أزيز الفوضى!

3- تحت سقف الفوضى القضائية المصحوبة بتخبّط رهيب في سعر الصرف، تشير المعلومات أن هناك من يسعى من خلال ما يحصل لإفشال مهمة المحققين الأوروبيين الذين من المرتقب حضورهم ألى بيروت خلال الأسبوعين المقبلين، وعلى رأس جدول مهامهم التحقيق مع حاكم المصرف المركزي رياض سلامة وعدد من أصحاب المصارف.

4- الإستثمار الحميد في كل ما يحصل، قد يكون بدفع المجلس النيابي لبت قانون استقلالية القضاء المعطّل، كونه يشكل الخطوة الأولى لترميم أساسات دولة قهرها الفساد.

قد يكون لبنان، هو مجسّم الدولة الوحيدة في العالم التي يتصارع فيها القضاة كما تتصارع القوى السياسية وأندية كرة القدم وزوجات الرجل الواحد، ولكن الأكيد أن هذا الصراع ليس سوى القشرة التي تختبئ تحتها مخططات التفجير، وربّما الحلول. الأكيد أن سيناريو وحيد يُنفّذ بدقّة وهو طمس حقيقة تفجير المرفأ.

ماهر الدنا