نفط شمال شرق سورية المُستباح

  «نفط سورية ليس للسوريين» مقولة أطلقتها صحافة الكتلة الوطنية السورية في الثلاثينات من القرن الماضي (جريدة القبس آب 1936) حين كانت كبريات شركات النفط العالمية الأوروبية والأميركية تتسابق على استكشاف النفط في المنطقة العربية. ولعب ذلك التنافس دوراً مهماً في تأجيج النزعات الانفصالية في شمال شرقي سوريا وفق ما كانت تكتبه الصحافة الوطنية حينذاك.

لطالما ارتبطت مفردة «النفط» بالرخاء المادي و«البحبوحة» الاقتصادية. فالذهب الأسود كما يحب البعض تسميته أصبح عصب الحياة في عصرنا هذا، وهو الداعم الأول لميزانيات الدول المنتجة والمصدرة له. وحين نقول «دولة نفطية»، فإننا لا نقصد بالضرورة دولةً تعتمد في اقتصادها بشكل رئيسي على النفط، كما هو الحال في دول الخليج العربي أو بعض البلدان الأفريقية على سبيل المثال، بل يُقصد بالتسمية دولة تمتلك من النفط مخزوناً كافياً ليمهد الطريق نحو حياة مرفهة لشعب هذه الدولة.

غير أن الوضع في سوريا بقي مختلفاً لعشرات السنين منذ بداية استخراج النفط وتصديره في أواخر الستينيات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، وبدل أن ترتبط كلمة «نفط» لدى السوريين بالعيش الرغيد، أصبحت كابوساً يومياً ملازماً لهم عنوانه البحث الدائم والسعي الدؤوب في سبل تأمين المحروقات للحصول على دفء فصل الشتاء، أو بعض «البنزين» لواسطات نقلهم.

الصراع الفرنسي – التركي على الجزيرة

في شباط 1922 أخذ الجنرال ” دو لاموت” يلحّ على القيادة العسكرية الفرنسية للقيام بعمل سريع لإحكام السيطرة على الجزيرة وعدم الاستسلام لمقاومة الكماليين لها بسبب الزراعة والقطن والتوقعات النفطية باعتبارها بديلاً عن ضياع الموصل.

كان “دو لاموت” ينتهز في الواقع فرصة الوفاق الفرنسي– التركي كي يتحسن الوضع الفرنسي في الجزيرة السورية التي كانت لا تزال تحتاج لإكمال السيطرة عليها، إلى إخضاع عشائرها لسلطته، تقدمت القوات الفرنسية في هذا السياق نحو الحسكة في أيار 1922، وخاضت طوال الفترة الواقعة بين شهري تموز وآب 1922 معارك ضارية مع العشائر العربية

وفي اواخر العشرينيات ومطلع الثلاثينيات ارتفعت وتائر دراسة مكامن النفط المحتملة، حيث تعود الأصول القريبة لذلك الى الحس بالغبن الفرنسي بعد التسوية بين كليمنصو – لويد جورج لمشكلة الموصل التي حُلُت بمنح فرنسا حصة تقارب 25 % من نفط الموصل مقابل تنازلها عن الموصل لبريطانيا.

ووافق كليمنصو حينها لانه لم يكن يعير النفط اهمية كبيرة ضمن منظوره لتوازن القوى كحل للخلافات، ومهد ذلك لتوقيع اتفاقية سان ريمو.

لكن عام 1929 عادت الاهمية النفطية تبرز في استراتيجية فرنسا للمنطقة، أوفدت فرنسا بعثة لدراسة نفط الجزيرة السورية وخرجت بنتيجة ان النفط موجود في مساحات واسعة منها، وبدأت عملية منح الرخص لاستكشاف المكامن النفطية واستثمارها.

كانت احتمالات اكتشاف النفط في شمال شرق الجزيرة وتحديداً في منطقة منقار البط على المثلث الحدودي السوري – التركي – العراقي أحد اسباب اشتداد الخلافات بين الاتراك والفرنسيين على ترسيم الحدود وتأخير ذلك لعام 1929 حين ضمنت فرنسا ضم منطقة منقار البط الى سورية.

ضمن هذا السياق علينا أن نضع في الاعتبار (اتفاقية انقرة الأولى ) بين الفرنسيين والاتراك الكماليين في 20/تشرين الاول / 1921، والتي تنازلت فرنسا بموجبها عن 18 ألف كلم مربع من الأراضي السورية شملت كيليكيا وقسماً كبيراً من الجزيرة (مرعش واورفة وماردين وسعرت وكلس وعنتاب )، وكان البديل للفرنسيين السيطرة على الجزيرة، وتنازل الفرنسيون في اتفاقية ايار 1926 ايضاً عن بعض القرى السورية مقابل اعتراف تركيا بسيادة فرنسا على الجزيرة العليا، عقب هذه الاتفاقية استكملت القوات الفرنسية سيطرتها على الجزيرة ودخلت القامشلي في 5 / آب / 1926، وألّفت لجنة لترسيم الحدود انهت عملها باتفاق تكميلي جديد عام 1929.

نفط شمال شرق سوريا

يشكل شمال شرق سوريا موقعاً إستراتيجياً بالمنطقة، وهذه الأهمية الاقتصادية والجغرافية جعلت من هذه المنطقة عقدة صراعات حالية بين القوى العالمية والاقليمية.

ففي أقصى الشمال الشرقي من محافظة الحسكة تقع حقول رميلان المتوزعة على أربع مناطق وهي السويدية وكراتشوك وعودة قرب القحطانية وعليان الزاربي، وهي مكونة من 1322 بئراً، ووصل انتاجها الى حدود 206 آلاف برميل نفط يومياً، بالإضافة إلى 35 بئراً غازياً في السويدية وصل انتاجها الى 2 مليون م3 من الغاز الذي يعالج بمعمل المرافق فيها، ويتم تجميع النفط المستخرج في محطة رميلان 1، لينقل بأنابيب النقل إلى محطات متتابعة بمسافة 100 كم بين المحطة والتي تليها، ماراً بمنطقة أثريا وريف السلمية الشرقي باتجاه مصفاتي حمص وبانياس، والمصب البحري في بانياس، وفي الجنوب الشرقي من المحافظة تقع حقول الشدادي والجبسة والهول ولها قدرة انتاج تبلغ 50 ألف برميل نفط يومياً وحقل اليوسفية 1200 برميل، وبالإضافة الى الانتاج النفطي فإن حقول هذه المنطقة كانت تنتج 1.6 مليون م3 من الغاز من حقول الجبسة الذي يعالج في معمل غاز الحر وتبقى هناك بعض الحقول الصغيرة في جنوب المحافظة وهي مركدة و تشرين وكبيبة.

في قبضة؟

هذه الثروة الوطنية لم يستفد سكان الجزيرة السورية، ولم تنعكس في يوم من الأيام على تنمية اقتصاد هذه المنطقة المَنسية منذ الاستقلال وحتى الآن، فلم تشهد محافظة الحسكة مشروعاً تنموياً ينهض باقتصادها ويوفر فرص عمل لأبنائها الذين اضطروا في مراحل عديدة لطرق أبواب الهجرة الداخلية والخارجية.

في أواسط عام 2013 وقعت معظم الحقول والابار النفطية في شرق سوريا تحت سيطرة داعش، وشكّل النفط مصدراً أساسياً للايرادات بالنسبة للتنظيم، بحيث دَرَّ 1,5 مليون دولار يومياً وفق تقديرات صحيفة (الفايننشال تايمز) لعام 2016، التنظيم أنشأ آلاف أبراج التقطير البدائية والتي تتسبب بمستويات تلوث هائلة لتكرير النفط لاستعمالاته الخاصة. وفي سبتمبر 2017 سيطرت “قوات سورية الديمقراطية” على مدن الحسكة والرقة بالكامل وشرقي دير الزور، التي تضم أكبر 11 حقلاً للنفط في سورية.

وتمددت “قسد” بعد ذلك لتسيطر على حقول نفط الجبسة، وكبيبة، وتشرين في الحسكة، ومحطة الجبسة لتوليد الطاقة الكهربائية باستخدام الغاز الطبيعي، لتبلغ نسبة سيطرة “قسد”، نحو 70% من مصادر الطاقة في سورية، بسيطرتها على نحو 1400 بئر نفطية، بحسب مصادر في “هيئة الطاقة بمقاطعة الجزيرة” التي تتبع للإدارة الذاتية.

(الإدارة الذاتية) استخدمت جزء من الانتاج محلياً، والباقي يقوم اثرياء الحرب بنقل جزء منه لمناطق سيطرة الحكومة بهدف التكرير والاحتفاظ بجزء منه، وأيضاً يتم تهريب النفط لكردستان العراق للاستهلاك المحلي او للتهريب لتركيا حيث يباع النفط بأسعار منخفضة للغاية. ويقدر الخبراء ان (الادارة الذاتية) تحصل على 16 دولار للبرميل و15 دولار للحكومة السورية، أما الباقي الذي يمكن أن يصل لــــــ 50 دولار للبرميل فانه يضيع وينتهي به المطاف في جيوب أثرياء الحرب.

 الاستباحة مستمرة

تبقى منطقة الجزيرة السورية مستباحة نفطياً واقتصادياً وأمنياً، ويبقى أهلها يتحسرون بمرارة على أرضهم الخصبة والمعطاءة بثرواتها المدفونة في عمقها وتبدو الصورة ضبابية وغائمة لما هو قادم في ظل صراع يصفه أهل الجزيرة الباقين هناك بــــــ ” النار تحت الرماد” التي قد تطيح بكل شيء فصراع الشرع-عبدي لا يحمل آفاقاً وطنية ولا أملاً بمآلاته لأهل الجزيرة.

ملكون ملكون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *