لحظة الحقيقة

اللحظة و الحقيقة، ليستا دائماً على توافق في الانكشاف، فلحظة الحقيقة تعلن عن نفسها كإشارة إلى وجود ما واطلاعها على هذا الوجود، ولعل «الدولة» وحقيقتها هي أكثر ما تم الاطلاع عليه خلال القرنين الماضيين، ولعل هذا منبع أسفي الدائم من التأخر في الاطلاع على علوم «الدولة» ومن ثم المعرفة بها، وهنا يأتي شأن توليد أو انبثاق دولة من مجتمع، أو من لا مجتمع، ومن ثم إدارتها برشد معرفي، كي تصل إلى نتائج تناسب مقدماتها، وهنا أيضاً تبدو لحظة الحقيقة مظهرة أحكامها القاسية، تجاه من لم يراقب أداؤه السياسي، ويراجعه بكل إخلاص وعزيمة صادقة، ليواجه تغييراً قاسياً أو ليناً  يناسب مفهوم الصدق في ممارسة تكنولوجيات الإدارة، فالذي كذب معرفياً ( أي غش) في المواد الأولية التي تصنع «الدولة» سوف يواجه في لحظة الحقيقة إنهيار االلادولة، وسيتحسر على إنجازاته الباهرة التي لم تقدم ولم تؤخر في إنجاز ما كان يظنه على أنه دولة.

لقد خرج السوريون في 2011 ، على اللادولة، في لحظة حقيقة فارقة، وربما ظن كثيرون ( ومنهم المعارضة) أنهم خرجوا على الـ«دولة» فيها أجهزة لتسيير الأمور، وأهمها كان جهاز المخابرات، وهذا ما أثر بعمق وبشكل حاسم على رؤية «الدولة» القادمة، هذه الخطيئة يتقاسمها الجميع الآن، فاللادولة السابقة أخفت تربوياً، علوم الدولة، ومن ثم معارفها، وأهمها الممارسة السياسية للإفراد، كجزء أساسي من التربية الحقوقية، فأنجزت اجتماعاً أهبلاً ليس فيه مكان للحقوق، فما بالنا بالممارسة المعرفية للسياسة، كمسؤلية وواجب يقع على عاتق الأفراد، دون منع أو تنكيل؟! هنا تبدو لحظة الحقيقة مؤجلة وعلى تخوم « استرايجيا» وهمية وموهومة، لم يتم السعي العملي نحوها، إلا من خلال مانشيتات الأخبار الإعلامية، التي تحولت إلى مساخر شعبية لم يلتفت إلى عمقها أحد.

الإنتهاك، الإقصاء، التمييز، التهميش، الحنق، الكراهية، الطوائفية وغيرها مما يشبهها، كلها جرائم بالمفهوم العالمي لدور الدولة التربوي، فبالإضافة إلى ما تتسببه من خسائر في البنية المعيشية والتنموية، تتسب بشرخ المجتمع عمودياً، بطريقة من الصعب إعادة لصقه، وما المحاصصة الطائفية إلا نوع واحد من صور اللادولة المتنوعة، حيث يتحول الزمن إلى قاعة انتظار للحظة حقيقية تالية، تكون أسوأ من التي سبقتها، فالمقام الأخير هو للنتائج، وليس للنوايا «المعلنة»، فإما أن يكون وجود «الدولة» صحيح معرفياً بكامل تفاصيله وممارساته، أو يكون لا«دولة»، ففي هذه لا يوجد نجاح جزئي، فجريمة الكراهية، هي جريمة كاملة إما أن تقوم الدولة بمحاسبتها على سبيل التربية، أو تتركها للحظة الحقيقة حيث نراها مكتملة قوية وفعالة. وهنا تكون الـ«دولة» أو (اللادولة) قد ارتكبت هذه الجريمة بالنيابة عن الناس الذين أنابت نفسها عنهم، دون إخلاص معرفي للـ«دولة»، حيث يتحول دور «الدولة» العضوي، الذي هو الانتقال من الفوضى إلى النظام، إلى دور معاكس، تسود فيه الممارسات السلبية، المتوالدة، رغم صراخ الناس والنخب، لتجنب الإجرام، إلا أنه لاحياة/ء لم تنادي، فالغلبة والشوكة، هي المقابل المعرفي المتخلف للـ«دولة«.

منذ عام 1850 وربما قبله بقليل، طلع الشعر على ألسنة الصارخين بخطر الطوائفية السرطاني، وطلع الشعر على ألسنة الصارخين أن العالمانية ليست ضد الإيمان أو الدين، وطلع الشعر على ألسنة القائلين إن الدولة هي «تكنولوجية» إدارة الاجتماع البشري ومصالحه، حيث التكنولوجيات محايدة وباردة وعلى مسافة واحدة من الجميع، وأن الدستور هو نص تعاقدي محايد، لا تنفع فيه الفهلوة المعاكسة لتعديل احتياجات صنع هذه «التكنولوجية»، التي سوف تتعطل عاجلاً في حال الغش أو القسر، بحيث يتعاكس شغل هذه «الدولة» مع الهدف المصممَة لأجله، لتتحول هذه التكنولوجية التي تعب العالم بأسره من أجل استنباطها، إلى آلة خطيرة على أعضاء هذا الاجتماع البشري الذي لن يتبلور كمجتمع بعد، ليغرق في اللاجتماع تتغلغل فيه الجريمة بكافة أنواعها، وكذلك العنف بكامل أنواعه.

في إتكاء لامعرفي على مفهوم «الدولة» يتم توظيف الهوية، كذريعة للإستثناء والخصوصية، وعادة ما يكون هذا الإتكاء على هوية ناجزة قادمة من الماضي بالإسالة، مما يزيد من مفهوم الهوية غموضاً، على غموض وظيفتها ودورها في الاجتماع البشري، وكذلك غموض رؤيتنا إلى هوية الآخر المعني بالإعتراف بها عند إشهارها، ولكن التجارب والتجريب في هكذا نوع من الهويات الغامضة والتي لا دور عملي لها، أثبت أنها كذبة دوغمائية فهلوية للخطاب الإعلاني، للنخب التي تقتاد قطعان البشر إلى مسالخها بعقد اجتماعي إذعاني (على الأقل)، حيث تتصدر «قيمة» التخوين، لتصبح أعلى صوتاً من الدساتير نفسها، بحجة الحفاظ الآني على السلم الأهلي (القطعاني)، ولكن لحظة الحقيقة سوف تأتي، لنكتشف، أن الهوية ما هي إلا الإنتاج بكافة صنوفه، الذي يشكل المصلحة العليا لأي اجتماع بشري، بمعنى، أشهر لي ما تُنتج أعرف من أنت، وبهذا يمكنني التفاهم معك ضمن الشروط الإنسانية، حيث لا تنفع أية خصوصية هوياتية فلكلورية أو تراثية في هذا المضمار، فالمصالح تدار من أجل الحفاظ على الوجود، ولقد كثّف  العالم هذا المطلب بالإنتاج وصنع هوياته اليومية بيديه وذكائه.

دائما ما تكون لحظة الحقيقة قادمة، كنتيجة للأداء والممارسة السياسيين، فإذا لم يقم أحد بالفعل الصحيح في حماية لمصالح اجتماعه البشري، فستأتيه لحظة الحقيقة شاهرة سيف الفناء، وأسألوا في ذلك القذافي وعمر البشير والأسدين وعلى عبدلله صالح، إلى أين وصلوا بسكان أقليمهم.