يُستخدم مصطلح «السامية» اليوم للدلالة على لغات، شعوب، بل وحتى هويات عرقية مزعومة. غير أن هذا المصطلح لا يستند إلى أي أساس علمي أنثروبولوجي، بل نشأ في القرن الثامن عشر ضمن بيئة أوروبية متشبعة بالفكر التوراتي، ثم تم التلاعب به سياسياً وأيديولوجياً لاحقاً، خاصةً لخدمة المشروع الصهيوني الذي يسعى إلى ربط اليهود المعاصرين مباشرةً بتاريخ توراتي مزعوم.
يرتكز هذا البحث على الفكرة التالية: مفهوم «السامية» كهوية عرقية أو حضارية هو مفهوم ساقط ومغلوط، نشأ من خلفية لاهوتية لا علمية، ولم تثبته الأبحاث التاريخية أو الأنثروبولوجية. ما يجمع ما يُسمى بالشعوب السامية هو تشابه لغوي فقط، لا وحدة عرقية أو حضارية.
1 ـ الأصل التوراتي للمصطلح «السامية»
ظهر مصطلح «السامية» عام 1781 على يد المؤرخ واللغوي الألماني شلو تزر (August Ludwig von Schlözer)، الذي استند إلى «جدول الأمم» الوارد في سفر التكوين (الإصحاح 10)، حيث يُقسَّم نسل نوح إلى: سام، وحام، ويافث.
«شلو تزر» استخدم مصطلح «الساميين» لتصنيف مجموعة من اللغات (مثل العبرية، الآرامية، الكنعانية، الأكادية، والعربية) التي تتشارك في الجذور الثلاثية، خاصة في الفعل. لكن هذا التصنيف اللغوي سرعان ما تم توسيعه بشكل خاطئ ليشمل فكرة الأصل العرقي المشترك، رغم أن المتحدثين بهذه اللغات ينتمون إلى أعراق وثقافات مختلفة.
الحقيقة أن هذا التشابه اللغوي ناتج عن التفاعل الجغرافي والتاريخي بين شعوب المنطقة، وليس عن وحدة سلالية.
–علم الآثار وسقوط الأسطورة
في القرن التاسع عشر، بدأت البعثات الاستعمارية الأوروبية، خاصة الألمانية، في التنقيب الأثري في الشرق الأدنى بحثاً عن «آثار مملكة إسرائيل». وكانت زيارة القيصر الألماني غليوم الثاني إلى فلسطين عام 1898 ضمن هذه الحملة الرمزية.
غير أن الاكتشافات الأثرية وفك رموز لغات مثل الأكادية، الأوغاريتية، الكنعانية، والآرامية، أثبتت أن الشعوب التي تحدثت هذه اللغات كانت مستقلة حضارياً وثقافياً. صحيح أن هناك تداخلاً لغوياً، لكنه لا يعني وحدة الأصل أو الحضارة.
مع تقدم الدراسات، انهارت نظرية «السامية كوحدة حضارية»، وأصبح التوافق الأكاديمي يرى أن «السامية» مجرد تصنيف لغوي بحت لا أكثر.
3– التوظيف السياسي والمشروع الصهيوني
رغم سقوطها العلمي، تمت إعادة إحياء فكرة السامية في القرن العشرين لخدمة أهداف أيديولوجية صهيونية، تهدف إلى:
– ربط اليهود المعاصرين مباشرة بتاريخ توراتي قديم باعتبارهم «أبناء سام» ، وبالتالي توظيف هذا الارتباط لتبرير أحقيتهم في أرض فلسطين.
– نزع الشرعية عن الشعوب الأصلية في المشرق (مثل الفلسطينيين، الكنعانيين، الآراميين، السريان) عبر وصفهم بغير الساميين.
– احتكار مفهوم «العداء للسامية» ليقتصر على معاداة اليهود فقط، رغم أن العرب هم من أكثر الشعوب قرباً للغات «السامية» من الناحية اللسانية.
وقد أظهرت دراسات جينية حديثة، مثل دراسة إيران إلحيك (Eran Elhaik) عام 2012، أن اليهود الأشكناز (وهم غالبية يهود العالم اليوم) ينحدرون من خليط أوروبي وتركي، وليس من أصل سامي أو شرق أوسطي نقي، ما ينسف الأساس البيولوجي لأكذوبة «العرق السامي اليهودي.»
4– من هم الساميون الحقيقيون؟
إذا قبلنا بمفهوم «السامية» كتوصيف لغوي ثقافي، فإن الشعوب الأصيلة في الهلال الخصيب هي الوريث الحقيقي لهذا الإرث: الفلسطينيون، السوريون، اللبنانيون، العراقيون. هؤلاء يتحدثون لغات متفرعة من السريانية والآرامية والعربية، ويعيشون في امتداد جغرافي واحد منذ آلاف السنين.
الادعاء بأن اليهود وحدهم ساميون هو تشويه للتاريخ، وطمس للهويات الأصلية في المشرق، وهو ما يعكس رؤية استعمارية تُسخّر الدين والتاريخ لأغراض سياسية توسعية.
الخاتمة: ضرورة تفكيك «الخرافة السامية»
يجب أن يُعاد مصطلح «السامية» إلى معناه الحقيقي: وصف لغوي، لا عرقي ولا حضاري. أما استخدامه السياسي والعنصري كما يجري اليوم، فهو خديعة تاريخية تخدم المشروع الصهيوني وتمارس إقصاءً بحق شعوب المشرق الأصيلة.
إن التواطؤ الأكاديمي والإعلامي الغربي مع هذه الخرافة يجب أن يُواجه بوعي تاريخي، وبحث علمي حقيقي، يُعيد الاعتبار للرواية الحقيقية لتاريخ هذه الأرض وشعوبها.
المراجع
• رافائيل پاتاي: أسطورة العرق اليهودي
• إيران إلحيك: دراسة الجينوم اليهودي – 2012
• خواكين سانمارتين: لغات الشرق الأدنى القديم
• ماريو ليفراني: تاريخ إسرائيل وحقيقة إسرائيل
• إدوارد سعيد: الاستشراق
د. طارق سامي خوري ـ نائب سابق في البرلمان الأردني